أردوغان .. عقلية اقتناص الأرباح في السودان
البعث الأسبوعية- د.معن منيف سليمان
ينتهز رئيس النظام التركي أردوغان فرصة الحرب في السودان ليقترب مجدّداً من هذا البلد بدواعي الحقوق التاريخية المزعومة، ذلك أن صانع السياسة التركية بعقليته التي لا تعترف إلا بجني الأرباح سوف يتنازل عن مكاسبه التي حقّقها بمقايضة طائرات “البيرقدار” المسيّرة باتفاقيات غير مسبوقة مع أطراف النزاع، خاصّة أن طائرات “البيرقدار” المسيّرة قد تحوّلت من مجرّد طائرة تستخدم في القتال أو الاستطلاع إلى أحد أدوات السياسية الخارجية التي يستخدمها أردوغان، ما يؤّكد أن أردوغان عازم بكل قوته لأن يكون له حضور في المرحلة التي تلي انتهاء الحرب في السودان، مستغلاً موقعه ومساحته وفرص الاستثمار فيه ليكون إحدى أهم ركائز سياسته الأفريقية.
حاولت أنقرة مثل غيرها من العواصم الإقليمية الفاعلة دعوة طرفي النزاع في السودان “القوات المسلّحة” تحت إشراف عبد الفتاح البرهان و”قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى التهدئة والحوار بعيداً عن التصعيد العسكري.
ولكن في الحقيقة، إن مسألة التهدئة ليست بين أولوياتها بقدر ما هناك صراع يؤثّر على مصالح تركيا ومئات ملايين الدولارات من الاستثمارات في المدن السودانية، ويستدعي إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع الطرفين، ودعم جهود الدخول على خط الوساطات بهدف التواصل مع المتحاربين والحيلولة دون انتشار المعارك وتفاقم الأزمة.
فالمتتبع للسياسة الخارجية التركية لا يمكن أن يتصوّر أن صانع السياسة التركية بعقليته التي لا تعترف إلا بجني الأرباح سوف يتنازل عن مكاسبه التي حقّقها بمقايضة طائرات “البيرقدار” المسيّرة باتفاقيات غير مسبوقة، حتى في تاريخ تركيا الحديثة نفسها، مع السودان، وهي اتفاقيات قد يكون عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني قد وقّعها وهو يعلم قادم الأحداث، وهو ما يسوّغ قرار البرهان بمنح تركيا 100 ألف هكتار أو ما يساوي مليار متر مربع من الأراضي الزراعية وتشغيلها من قبل تركيا، وهي مساحة تضاف إلى 30 ألف فدان بمخطط الدبة الزراعي تمّ تخصيصها في وقت سابق لصالح الشركة السودانية التركية، وهي شركة تمتلك منها الحكومة السودانية بنسبة 20 بالمئة مقابل 80 بالمئة لتركيا وتعمل في مجال الإنتاج الزراعي والحيواني، وهو ما جاء ضمن سبع اتفاقيات شملت مجالات الطاقة، والدفاع، والمالية، والإعلام.
والواقع، إن المتابع يمكن أن يتفهم أن تتعاون تركيا مع السودان أو مع أية دولة في مجالات الطاقة والمالية، لكنه لا يفهم كيف يمكن أن تتعاون تركيا مع أي بلد في مجال الدفاع بدون أن يكون لها قوّات أو خبراء أو على الأقل أسلحة وذخائر على الأرض في هذه الدولة، بالإضافة إلى أن تعاون تركيا مع دولة تنطق بلغة أخرى خلاف لغتها في مجال الإعلام هو أيضاً غير مفهوم.
كما أن تكرار ظهور المسيّرة التركية “البيرقدار” على مسرح العمليات في الحرب بين الجيش السوداني وبين ميلشيات الدعم السريع يؤكّد أن صانع السياسة التركية عازم بكل قوته، ليس فقط على أن يكون طرفاً في الأحداث الجارية حالياً في السودان، بل على أن يكون له حضور في المرحلة التي تلي انتهاء الحرب في السودان، خاصة أن طائرات “البيرقدار” المسيرة قد تحوّلت من مجرّد طائرة تستخدم في القتال أو الاستطلاع إلى أحد أدوات السياسية الخارجية التي يستخدمها لرئيس النظام التركي.
تردّد أنقرة أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع وأن ما يجري هو شأن سوداني داخلي ينبغي معالجته في هذا الإطار، لكن هناك حقيقة وجود الكثير من الأسباب والدوافع التي تقلقها إذا لم تهدأ الأوضاع سريعاً، فقد اختارت تركيا السودان بسبب موقعه ومساحته وفرص الاستثمار فيه ليكون إحدى أهم ركائز سياستها الأفريقية.
يشكل السودان عمقاً إستراتيجياً لتركيا في القرن الأفريقي، وتحديداً مع امتلاك أنقرة قاعدةً عسكريةً في الصومال، واستئجارها جزيرة “سواكن” السودانية في البحر الأحمر. وعليه، رغبة تركيا في الوجود عسكرياً واقتصادياً على سواحل البحر الأحمر تبدو واضحةً للغاية. يذكر أن هذه الجزيرة استخدمتها الدولة العثمانية مركزاً لبحريتها في البحر الأحمر، وضم الميناء مقرّ الحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر بين عامي 1821 – 1885.
ويقلق أنقرة ما يجري في السودان لأنه يطول سياستها الإقليمية، ولأنه لا يمكن فصله بسهولة عن الحراك التركي الجديد نحو القارة السمراء ودول الشرق الأوسط، وبعدما وصل عدد الزيارات التي قام بها أردوغان باتجاه الدول الأفريقية إلى 18 زيارة وارتفعت أرقام البعثات الدبلوماسية بين تركيا وأفريقيا بنسبة سبعة أضعاف في العقد الأخير، وبقدر ما تريد أنقرة أن تعرف من الذي سيقود المشهد في السودان في المرحلة المقبلة، تريد أن تعرف أيضاً مصير العشرات من المشاريع الاقتصادية التي بدأتها هناك. الإجابة قد لا تكون بالضرورة لدى الخرطوم نفسها وهذا بين الأسباب الإضافية التي تقلق تركيا وتدفعها نحو المزيد من الحذر وحسابات خط الرجعة.
وطالما نظرت تركيا إلى السودان على أنه بوابتها إلى القارة الأفريقية، وبوجود حليف استمر في الحكم لمدّة ثلاثة عقود، مثل عمر البشير، ذهبت بخطى واسعة في زيادة وجودها الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي في بلدان القارة الأفريقية انطلاقاً من السودان، وأسهم في ذلك تنامي العلاقات بين البلدين في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والدعم السياسي التركي لرفع العقوبات الأمريكية.
خسرت تركيا رهانها على عمر البشير قبل خمس سنوات بعدما توحّد الداخل السوداني سياسياً وعسكرياً واجتماعياً ضدّه، لكنها نجحت في تحسين علاقاتها بالبرهان وحميدتي لذلك هي لن تفرّط بهذه العلاقة لصالح إرضاء أحدهما على حساب الآخر. وهي ستحاول البحث عن الفرص الممكنة لها لشغل دور المساهم في التهدئة، لكن الأهم بالنسبة لها أيضاً هو مواصلة سياستها الإقليمية الجديدة التي أطلقتها في العامين الأخيرين باتجاه العواصم الفاعلة في الإقليم وعدم تعريضها للخطر، خصوصاً مع اللاعبين المؤثرين في المنطقة مثل مصر والسعودية والإمارات.
ولكن اقتراب تركيا من السودان ليس استثماراً مالياً يخضع لحسابات الربح والخسارة فحسب، بل هو عودة تاريخية لتركيا لوادي النيل واقتراب جيواسترتيجي من نهر النيل، فعندما كان أردوغان يجوب البلدان العربية والأفريقية بما بدا وكأنه يجسد “السلطان العثماني”، وتزامن ذلك مع الدعاية الدبلوماسية واسعة الانتشار بأن تركيا بصدد استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية فيما سمّاه “ميراث الأجداد”، الممتد من آسيا الوسطى وأعماق أوروبا حتى جزيرة سواكن السودانية.