إلى المعجبين والمروجين لليبرالية المتوحشة!!
علي عبود
رغم انحدار الاقتصاد اللبناني إلى قعر الهاوية، فإن بعض منظّرينا لا يزال من المعجبين والمروّجين لنهجه الليبرالي المتوحّش، وكانوا يدعون حتى الأمس القريب إلى التعلّم من تجربته المالية والمصرفية وانفتاحه على العالم.
ولا نلوم آلاف السوريين الذين كانوا، ولا يزالون، يسافرون إلى لبنان للتسوّق، ففيه كلّ شيء يفتقدونه في بلدهم، كما أن العرب لطالما اعتبروه مقصداً سياحياً في الصيف قبل أن يستبدلوه بعواصم غربية، لكننا نلوم المنظّرين الذين يعرفون أنهم بالترويج للتجربة اللبنانية، فهم يروّجون للاقتصاد الريعي، ولتحطيم القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية!.
ونفترضُ مسبقاً أن المنظّرين السوريين تابعوا كتابات بعض الاقتصاديين اللبنانيين المتنوّرين الذين شرحوا بالعمق هشاشة الاقتصاد اللبناني، وتنبؤوا قبل ثلاثة عقود بانهياره بالضربات القاضية فور تخلي الغرب المتوحّش عن دعم قطاعاته المالية والمصرفية، ومع ذلك تجاهلوها قصداً، ربما لإيمانهم الأعمى بالليبرالية المتوحّشة، وبجدوى القطاعات الخدمية لا الإنتاجية!
نعم، كان المنظّرون الذين يروّجون للاقتداء بالتجربة اللبنانية، وكأنّهم يدعون حكوماتنا المتعاقبة إلى تبني نهج السوق الليبرالي المتوحّش، وقد نجحوا في مسعاهم مع حكومة (2003- 2010) التي حوّلت سورية من بلد مكتفٍ ذاتياً ومصدّر إلى مستورد للحبوب، ومنعت الدعم عن القطاعات الإنتاجية، وكرّست جهدها لتطوير القطاعات الريعية. وها هم يدعون علانية وبقوة لتطبيق نهج (دعه يعمل.. دعه يمر)، أيّ (دعه ينفلت.. دعه يثرى)!!
مناسبة التذكير بمنظّري الليبرالية صدور كتاب جديد للأكاديمي والباحث ألبير داغر بعنوان (تجربة لبنان التنموية)، يُوثّق فيه التاريخ الاقتصادي للبنان منذ الحقبة العثمانية وحتى نهاية الحقبة الحريرية التي دمّرت كلّ ما هو إنتاج في لبنان!.
ويمكن القول إن هذا الكتاب يردّ بالأدلة الموثقة على جميع المعجبين والمروّجين للاقتصاد الليبرالي المتوحّش، وينظرون إلى لبنان كمثالٍ رفضت حكوماتنا المتعاقبة الاقتداء به، وهذا دليل على قصور في الرؤية وفي التحليل، فتحويل أي بلد إلى سوق للتجارة والسياحة سيعرّضه للانهيار حتماً مع أي هزة نقدية ومصرفية، في حين أن بلداً مثل سورية اعتمد خلال ثلاثة عقود متواصلة على خطط خمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تمكّن من الصمود أمام أكبر وأشرس حرب إرهابية عالمية، ولا يزال صامداً بوجه أقسى حصار اقتصادي ومالي.
لقد عرّى الباحث داغر تجربة الحقبة الشهابية (نسبة للرئيس فؤاد شهاب) كاشفاً سلبياتها، ومؤكداً أن الحكومات اللبنانية منذ الخمسينيات كانت معادية للريف فأفرغته خلال عقد الستينيات من أهله ودفعت بغالبية سكانه إلى الهجرة، وأثبت الكاتب (أن تجربة لبنان التنموية منذ الخمسينيات حصلت ضد الريف، أو أن الريف وأهله كانوا ضحيتها الأولى والرئيسية).
ولكي لا يستنتج الكثيرون، أن إهمال الريف اللبناني كان على حساب ازدهار المدن وتحديداً العاصمة بيروت، فإن الكاتب داغر يكشف العكس تماماً، من خلال تسليط الضوء على تجربة الحقبة الحريرية ما بعد عام 1990، فقد أشار إلى انحسار الاستثمارات الحكومية في قطاعات خدمية، وتحديداً في المواصلات والاتصالات والكهرباء، والاهتمام بضمان مصالح (أصحاب الريوع المالية) أي القطاع المصرفي، وإهمال متعمّد، بل ومفرط، لكل القطاعات الإنتاجية!
نعم، لم ترصد الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ استقلال بلدها أي اعتمادات جديّة لبناء اقتصاد منتج، فالأولوية كانت حتى الانهيار المالي الكبير لمصلحة النظام المصرفي فقط، أو ما يمكن وصفه بكل دقة: (الرأسمالية الريعية)!
ولم تخفِ الحريرية تبنيها، خلال (1991- 2005)، ولا الحكومات التي أتت بعدها، لسياسات البنك الدولي، أي الامتناع عن دعم أي قطاعات إنتاجية، وعدم الإنفاق على البنى التحتية والصحة والتعليم، وبتجميد رواتب العاملين في مؤسسات الدولة!
واستجابة للخارج حرّرت (الحريرية) في عام 2000 التبادل التجاري مع الخارج، فتحوّل لبنان إلى سوق عالمي يجذب العرب والسوريين، وأدى هذا (التحرير) إلى القضاء على ما تبقّى من قطاع صناعي.
وتميّزت الحقبة الحريرية أيضاً بنشر الفساد السياسي والإداري، على نطاق واسع لم يشهده لبنان منذ تأسيسه، إلى حدّ أصبح فيه عصيّاً على أيّ إصلاح رغم الانهيار المالي والمصرفي المستمر منذ عام2017 على الأقلّ، وطارت خلاله احتياطات المصرف المركزي البالغة 180 مليار دولار، وطارت معها أيضاً ودائع اللبنانيين، وأيضاً ودائع السوريين التي لا تقلّ عن40 مليار دولار!.
الخلاصة: تؤكد تجربة لبنان اللا تنموية صوابية نهج الاقتصاد السوري القائم على توجيه الاستثمارات الحكومية منذ عام 1970 باتجاه القطاعات الإنتاجية من جهة، وتنمية الريف من جهة أخرى، وإذا كانت حكومة (2003- 2010) خرجت عن هذا النهج وتبنّت نهج السوق الليبرالي المتوحّش، فإن ما مرّ على سورية منذ عام 2011 يؤكد أهمية العودة مجدداً إلى نهج الخطط الخمسية الاقتصادية والاجتماعية لتكون الردّ النهائي على منظّري الليبرالية، والبديل عن سياسات اقتصادية محورها ردات الفعل اللا مدروسة على الأوضاع الراهنة!!