استمرار التخبط في شرنقة الحلول المبتورة.. أين الإدارات المبدعة؟
يبقى الهمّ المعيشي للأسرة والضغط الاقتصادي على البلد هو ما يشغل السوريين عامة، ورغم ذلك لم يتخلوا عن الأمل بأن الأحوال ستتغيّر وتُفرج بعد معاناة مريرة وطويلة كانت تحتاج منذ البداية وقبل أن تتأزم الأحوال إلى إرادة قوية وإدارة ناجحة لتطويق الأزمات، أو على الأقل التخفيف من حدّتها؟
لا شكّ في أن حرب الـ 12 عاماً كان الهدف الرئيسي لها هو إضعاف سورية، بل تفتيتها لتبقى في مرمى الأعداء متى شاؤوا، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا فعلت الحكومة خلال الأربع سنوات الماضية من عمر توقف العمليات العسكرية على مختلف جبهات المواجهة ضد الإرهابيين وداعميهم من المحتلين لأراضينا وسارقي خيراتنا؟
الطبقة الوسطى
هناك وضع اقتصادي ضاغط أدّى إلى شرخ واضح في المجتمع، حيث لم يعد هناك طبقة وسطى، بل أناس تحت خط الفقر، وأناس في ثراء فاحش، كل ذلك يحدث أمام التعثر في الخروج مما نحن فيه!
ولقد بات واضحاً للجميع أن ما يحصل من أزمات متكرّرة هو نتيجة التعاطي النمطي مع المشكلات، والذي ما زال يعتمد على التجريب، فكلنا لاحظنا في الفترة الأخيرة قرارات وإجراءات تُتخذ على عجل لا تحقّق الغاية المرجوة منها، ليستمر مشهد المعاناة.
المواطن “الملدوع” من لهيب الأسعار يسأل: متى نخرج من شرنقة القرارات والحلول المبتورة؟! ويسأل أيضاً: متى تنتعش الزراعة والصناعة، فهما تشكلان قاطرة الاقتصاد والداعم الأساسي والأول للتنمية وتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي والاستقرار الاقتصادي، فلماذا يغيب عنهما الدعم الفعلي لمصلحة قلّة من المستوردين؟
ملاقاة الحوائج
الخبير الاقتصادي والمحلّل السياسي، الدكتور غالب صالح، يرى أن على أصحاب القرار ملاقاة أصحاب الحوائج بحسن إدارة شؤونهم وتقاسم الأوجاع ورغيف الخبز، ومحاسبة كلّ فاشل ومقصّر ومسيء ومستفز ليبقى الأمل قائماً.
واستغرب الدكتور صالح كيف تترك الأسواق بهذه الفوضى، مشيراً إلى أن التجار يسرحون ويمرحون، والمسيئون يتلاعبون ولا يبالون دون حساب ورقيب!
وبرأي صالح، علينا أن نقرأ المشهد الاقتصادي، بل المشهد السوري بشكل عام، بصورة عقلانية، فالمواطن هو حجر الصمود، وقد أثبت وعيه وثباته ونضاله اللامحدود طيلة السنوات الماضية من عمر الحرب، لكن إن استمر الوضع الاقتصادي على ما هو عليه، فقد لا يصمد طويلاً أمام الحاجة والعوز والفقر.
وشدّد الخبير الاقتصادي على أهمية الاعتماد على الكفاءات الإدارية والاقتصادية المبدعة، فهي تحتاج لمن يبحث عنها ويدعمها، مؤكداً أن الكفاءات تُكتشف ولا تصنّع، ونبحث عنها ولا تبحث عنّا، ونحتاجها ولا تحتاجنا، متسائلاً: هل نحن نعمل ضمن هذا المعيار؟ معرباً عن أمله بتحديث وتطوير الأنظمة والقوانين لتكون داعمة وميسّرة من أجل تحقيق أفضل النتائج.
في السياق نفسه استغرب خبراء في الإدارة استمرار المعوقات الإدارية في المؤسّسات، على الرغم من وضوحها للعلن دون وجود أي إجراءات لبترها، في وقت نتحدث فيه عن الإصلاح الإداري!. خبراء الإدارة أكدوا أننا اليوم أحوج إلى تطوير نظم إدارة الموارد البشرية عبر حاضنة إدارية تضمّ “قيماً وأفعالاً وأخلاقاً وتشريعات مرنة ومحفزة للعمل، أي ليست مجرد هياكل تنظيمية”.
الأمل بالزراعة
رئيف محمد، الخبير الزراعي، وصاحب مزارع زيتون ولوز وكرمة، أبدى هو الآخر استغرابه كيف يُترك الإنتاج الزراعي مهملاً، ويُترك المواطن تحت رحمة التّجار والمستوردين، متسائلاً: هل يعقل أن نستورد القمح وأراضينا قادرة على إنتاج ملايين الأطنان من القمح السوري المشهود له عالمياً؟ وهل يعقل أن صفيحة زيت الزيتون (20 كغ) بمليون وثلاثمائة ألف ليرة؟ لماذا لا يتمّ دعم الفلاحين والمزارعين دعماً حقيقياً؟ وهل يعقل أن يكون سعر كيلو القمح أقل من سعر كيلو العلف؟!
تبدو أسئلة الخبير الزراعي منطقية ولا غبار عليها قياساً للدعم المفتوح الذي كان يُقدّم في الماضي. ومعلوم أن الحكومة قبل الحرب كانت تدعم مزارعي القمح بأفضل أنواع البذار الخالية من الأمراض وبأسعار مدعومة، أما اليوم فالدعم انكمش، ويكاد يتلاشى، لذا لا عجب أن يهجر الفلاح أرضه.
مبادرة إيجابية
تشكّل الأراضي القابلة للزراعة 32.8% من المساحة الإجمالية للقطر. وبرأي طلبة الزراعة في جامعة دمشق فإن هذه المساحة لو استُثمرت بالشكل الصحيح مع دعم فعلي من الدولة للمزارعين، فلا يمكن أن تحدث أزمة غذاء في سورية.
وتساءل الطلبة عن سبب غياب الدعم الحقيقي للمشاريع الصغيرة، وأشاروا إلى إجراءات مربكة جداً تجعل أصحاب المشروع يهربون، فهم يرون الخسائر قبل البدء بمشاريعهم. واقترح طلبة الزراعة على وزارة الزراعة أن توزع 10 غرسات زيتون لكلّ أسرة في الريف السوري لزراعتها في ظل عزوف العديد من المزارعين عن الزراعة لأسباب كثيرة كارتفاع التكاليف، كما طالبوا بدعم المازوت والأدوية الزراعية والسماد، فأسعارها التي تتراقص على إيقاعات سعر الصرف، تجعل إمكانية تأمينها وشرائها أمراً مكلفاً للفلاح.
واستغرب طلبة الزراعة عدم تبني أي خطة أو أي إستراتيجية من قبل الفريق الاقتصادي لدعم القطاع الزراعي والصناعي، والتراخي في منع احتكار المواد من قبل التجار والمستوردين، وطالبوا بإعادة النظر في كلّ الأمور والقضايا التي تهمّ المواطنين والجلوس بشفافية مع خبراء الاقتصاد، والاستفادة من كافة أفكارهم التي تساهم في حلّ الأزمة المعيشية والاقتصادية، فحسب قولهم “الشارع السوري يحتاج لتغيير إيجابي يقوي الأمل بشأن التخفيف من المعاناة”.
سؤال مشروع؟
علينا أن نسأل أنفسنا: كيف وصلت المؤسّسات إلى هذا الحدّ من الترهل الإداري، وسوء نوعية المنتج بعد أن كان بعضها يستحق الاحترام على فعالية وجودة إنتاجها؟!
سؤال طرحة طلبة الإدارة في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، مؤكدين أن ما نعانيه من أزمات متنوعة يكمن في فوضى الإدارة، والتي تظهر في اتخاذ قرارات وإجراءات غير موفقة، وخاصة ما يتعلق بدعم قطاعات الزراعة والثروة الحيوانية والصناعة.
بالمختصر.. اقتصادنا الذي يمرّ بمرحلة شديدة الصعوبة والتعقيد، نتيجة لأسباب كثيرة باتت معروفة، يتطلّب اليوم عقلية جديدة في الإدارة، لا هياكل جوفاء، بمعنى نحتاج إدارة مبدعة، فاﻹبداع اﻹداري ﻣﻦ أهم مقومات اﻟﺘﻨﻤﻴﺔ واﻟتطوير وإيجاد الحلول خارج نطاق المألوف في التعامل مع كل أزماتنا المزمنة التي مررنا بها على مدار السنوات الماضية وخاصة الأزمة المعيشية.
غسان فطوم