الإصبع والجرح
عبد الكريم النّاعم
جاء صديقي ومعه رفيق آخر لم أره من قبل، فاستقبلتُهما بما يليق من الترحيب، وفور جلوسنا قال صديقي: “(…) من أصدقائي ومِن جيراني، وقد حدّثتُه عنك وعن جلساتنا، وحواراتنا، فطلب أن يتعرّف إليك”، فجدّدتُ التأهيل، وفرَك صديقي راحتيه وقال وكأنّه يُعلن عن افتتاح كلام ما: “لا همّ للناس، هذه الأيام إلاّ زيادة الأسعار اليومية، وارتفاع سعر الدولار، وصار أشباه الأميّين يتابعون صعوده، حتى لكأنّنا أمام خطر داهم لا نستطيع له دفْعاً، والذين يعرفون ما لا نعرف من هذا صامتون في مواقعهم، حتى لكأنّ من يصرخ، ويعجز، ويشكو، من كوكب آخر”.
بأسلوب لطيف تدخّل الضيف وقال: “الجرح لا يؤلم إلاّ صاحبه، ويئنّ المحتاج، أمّا الذي انتفختْ أوداج جدرانه من التُّخمة فما الذي يعنيه من كلّ ذلك”؟!!
بصورة لا شعوريّة تنهّدتُ وقلت: “معك حقّ، ويكاد الخرَس يسيطر على فطنة كلّ فطين، وكم يشعر الإنسان بالعجز، والحزن، والقهر في استمرار هذه الحالة، والتي يبدو أنّها في تصاعد، لقد أصبح تسعون بالمائة من أبناء شعبنا يعجزون عن تقديم فنجان القهوة للزّائر، وهذا يترك آثاراً صحيّةّ، واجتماعيّة، ويُشيع المزيد من الكآبة، ويحمل في ثناياه الكثير من الأمراض النفسيّة، والجسديّة، وحتى الانحدارات الأخلاقيّة، وقد حذّر الإمام عليّ (ع) من ذلك حين قال في جُملة ما قال: “إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك”..
قال صديقي: “وماذا بعد”؟!!
أجاب الضيف وابتسامة مريرة على محيّاه وقال: “هذا يذكّرني بقصّة معروفة، تقول خلاصتها إنّ أحد قارئي الطالع جاءه رجل في حالة ضيق ماديّ مُزمنة، وسأله عن طالع أيامه المُقبِلة، فنظر فيما ينظر وقال له: “أمامك ثلاث سنوات بالغة الضيق”، وصمت، فسأله الرجل وبعدَها،؟ فأجابه ثلاث مثلها، وسأل متمنيّاً تبدّل الحال إلى ما هو أحسن: “وبعدَها؟”، فأجابه: “بعدها تكون قد اعتدْتَ على ما أنت فيه”.
قاطعه صديقي بنبرة في الكلام متوتّرة: “زهقنا يا رجل”..
نشر الصمت الممضّ أجنحته، وبعد قليل سألني صديقي: “ما بك لا تتكلّم”؟!
قلت: “الكلام حين تنفتح ميادينه قد يَشعر الإنسان بالعجز عن قول أيّ شيء، ولكنْ.. اسمحا لي بطرح بعض الملاحظات الخاصّة بنا، نحن جماعة التسعين بالمائة، فأقول إنّ البعض ما زالوا يحلمون بالعودة إلى ما كنّا فيه قبل عشريّة الحريق والخراب، وهذا حلم ليس له أيّ نصيب من التحقّق الآن، بل هو حلم مَن كان في جنّة وأُخرج منها.. لا بدّ من بدْء جديد ينطلق من معُطيات ما نحن فيه، ولا بدّ من تكيّفات جديدة، ولا أعني أصحاب العشرة بالمائة الذين أَتْخمتْهم خيارات الحيازات الماليّة، ويعيشون حياة لا علاقة لها بحياة شرائح مجتمعنا، ولستُ أُنكر أثر الإجراءات الخارجيّة التي تُمارَس ضدنا بوحشيّة لم تُعرَف من قبْل، كما لا أُنكر تقصير بعض مَن أنيطتْ بهم بعض الأمور، وهذا يجعلنا كأفراد، ولمدّة زمنيّة يصعب تقديرها، نعتمد على كيف نتصرّف بما هو بين أيدينا. وسأفترض أنّك كنتَ من قبل تملك أرضاً وجرّاراً، وفجأة حدث ما أفقدك الجرّار والأدوات المساعدة، فهل تقف تندب حظّك، وتضرب كفّاً بكفّ وأنت جالس في مكانك؟ أم تعود إلى الفلاحة بالصّمْد الخشبي، وإلى الأساليب التي تخلّيت عنها، لتستعيد توازنك، وتقف على رجليك من جديد؟ بظنّي أنّه ليس أمام أمثالنا إلاّ التأقلم، دون أية مسامحة للذين كانوا قادرين على جعل الأمور أقلّ مأساويّة، ولم يفعلوا، سواء أكانوا من أهل الخارج أم من أهل الداخل”.
aaalnaem@gmail.com