المنطقة وإعادة ترتيب الأوراق
أحمد حسن
بغض النظر عن تفاصيل صغيرة هنا وهناك، يبدو اليوم أن المشهد الأمريكي التقليدي في التعامل مع “الحلفاء” يعيد، كما في كل مرة، تكرار ذاته في بعض مناطق سورية، لكنه في تكراره هذا يفضح أشياء أخرى كان يُراد لها أن تبقى طي الكتمان في هذه المرحلة على الأقل.
فمع اهتزاز – وليس انتهاء – مشروع “قسد” في الشمال الشرقي (لأسباب عدّة منها ارتفاع نسبة تكاليفه إلى مردوده على المشغّل / المحتّل، ومنها حاجة واشنطن إلى “وجه عربي” في مشروعها الجديد لإغلاق الحدود السورية العراقية)، استفاق المحتّل التركي لاقتناص اللحظة الحرجة، وحقيقة توجّه أنظار الجميع إلى تلك المنطقة، لتحقيق مكاسب لمشروعه في الشمال الغربي، وكان لذلك كلّه – اهتزاز “قسد” واستفاقة التركي – أن يكشف أموراً كثيرة لم تكن خافيةً إلا على من أراد منذ اللحظة الأولى ألّا يرى إلّا أوهامه وآماله.
فـ “قسد” التي اعتبرت نفسها في لحظة ما شريكة أساسية لما يسمى بـ “التحالف الدولي”، وتحظى، بالتالي، على غطائه لـ “مشروعها”، اكتشفت الآن، وبالنار، أنها مجرّد أداة أخرى مثل غيرها، وأنها ستُرمى عند انتهاء الحاجة إليها، وهو اكتشاف لم يكن له سوى أن يجرّها إلى المزيد من الخطوات الحائرة والكاشفة في الآن ذاته، فتارة “تطالب التحالف الدولي بتحمّل مسؤولياته تجاه الاضطرابات الجارية”، وتارة تحمّل ايران و”حكومة دمشق” مسؤولية الوقوف خلف ما يحدث، وتارة تناشد “شعوب المنطقة” و”على وجه الخصوص شعب دير الزور ألا ينجرّوا وراء الفتن والألاعيب”.
والحال فإن تلك العبارات والجمل أزاحت الغطاء عمّا حاولت “قسد” التغطية عليه خلال الفترة الماضية تحت ظلال من الكلمات والشعارات الفخمة والرنّانة، فمطالبتها “التحالف الدولي بتحمّل مسؤولياته” لم تكن إلّا كشفاً عن ضعف وتبعية “مشروعها” وعدم وجود أي جذور “أصلية” له في البيئة السورية، وبالتالي حاجته المستمرة للغطاء الخارجي كي يبقى ويدوم، أما استخدامها عبارات من قبيل “حكومة دمشق” و”شعوب المنطقة” فلم يكن له سوى أن يفضح، ولمرة أخيرة، حقيقة الجوهر الانفصالي لـ “مشروع الإدارة الذاتية” الذي حاول آخرون أيضاً التمثّل به باعتباره الحل السحري للقضايا كلها.
وعلى غرار انكشاف “قسد”، مشروعاً وأهدافاً، فقد كشفت مسارعة المحتل التركي لاستغلال اللحظة والدفع بأتباعه لشن أعنف وأوسع عدوان إرهابي منذ سنوات عدّة ضد مواقع الجيش العربي السوري، الكثير، وأول ما كشفته كان واقعية موقف دمشق وصدقه حين أعلنت أمام الجميع أن التركي – أردوغان تحديداً – لا يريد التقيد بتنفيذ أي من تعهداته التي “سفحها” في “أستانة” و”سوتشي” لأنه يملك مشروعاً توسّعياً احتلالياً بأوهام “سلطانية” بائدة، أما الأمر الثاني فهو أن أنقرة التي تعادي “قسد” علناً وتحارب مشروعها الانفصالي كما تقول، هي من أهم “حُماة” هذا “المشروع” ولو لمرحلة مؤقتة باعتباره “الفزّاعة” والذريعة المناسبة، سواء للداخل التركي أو للخارج، لمشروعها الاحتلالي المعلن والذي تفضحه عمليات “التتريك” اليومية في المناطق التي يسيطر عليها أتباعها.
خلاصة القول، ما يحدث الآن هو محاولة جديدة لخلط الأوراق في المنطقة لخدمة أهداف قديمة تندرج، كلها، تحت شعار “الإركاع والاستتباع” الذي رُفع منذ اللحظة الأولى، مستفيدة من أوهام هنا وأطماعٍ هناك. لكن ما يحدث أيضاً يقدّم – وهو يكشف بطريقه ما حاول البعض إخفاءه – فرصاً مهمة للجميع كي يراجعوا حساباتهم ويبنوا على الشيء مقتضاه، فـ “الخارج” لم يعنيه مما حدث سوى الربح، سواء كان “الأمريكي” الذي لم يزد على أن يقدّم نفسه كـ “مرجع” للمختلفين”، أو “التركي” الذي حاول “تثمين” أوراقه على حساب الجميع، وذلك كلّه ما يؤكد، للمرة الألف، ضرورة توجيه البوصلة نحو هدفها الصحيح: فوهة البندقية للعدو وطاولة الحوار مع الشقيق، فذلك فقط ما يمكن له أن يعيد ترتيب الأوراق لما فيه مصلحة الشعب – وليس “الشعوب” – السوري دون استثناء أو اقصاء.