الأمريكيون فوق رمال متحركة
بسام هاشم
من الآن فصاعداً، سوف تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في مواجهة مستعصية؛ وسوف يتعين عليها، حتى إشعار آخر، إدارة انقسامات وتشققات وخلافات غير مسبوقة، وقد تكون غير قابلة للحل، في منطقة تتولى احتلالها مباشرةً، ولكنها تكنّ لها الكثير من العداء السياسي والثقافي والتاريخي. وما كان يمكن أن نسميه «احتلالاً نظيفاً»، أي معفى من أية مسؤولية قانونية أو أخلاقية أو سياسية، أو حتى اقتصادية، تجاه ضحاياه – وهم هنا أهلنا في المناطق الشرقية، عرباً وأكراداً وسرياناً وآشوريين، وغيرهم، وعلى اختلاف أديانهم وطوائفهم – قد انتهى مع انتفاضة العشائر العربية ضد الميليشيات «العابرة للحدود» التابعة لحزب العمال الكردستاني، لينتهي معه أيضاً التفويض المفتوح الذي منحته قوات الاحتلال الأمريكية، منذ 2014، لهذه الميليشيات، تحت غطاء الحرب على «داعش». لقد مضت إلى غير رجعة حقبة «الاحتلال السعيد» حيث يتقاسم الضباط الأمريكيون الفاسدون، وبطانة مظلوم عبدي العميلة، عوائد النفط والغاز الطبيعي والقمح في منطقة الجزيرة السورية، فيما يعيش أبناء العشائر السورية أقسى الظروف المعيشية، وسط التلوث البيئي الذي سجل مستويات قياسية نتيجة استمرار عمليات الاستخراج والتكرير البدائية.. فساد وفقر وسوء إدارة وخدمات متردية وحرمان من الموارد، وسط منازل متداعية ومنشآت محلية تم تدميرها بالكامل، دون شفقة ودون رحمة، بذريعة الحرب المزعومة على «داعش».
قدم عملاء «الإدارة الذاتية» من ميليشيات مظلوم عبدي تجربة فريدة في القمع والتمييز على أساس العرق والاستئثار بالسلطة والاستبداد السياسي، ومكّنت الرعاية الأمنية والسياسية والإعلامية الغربية من إلغاء أية أحاديث، وإقصاء أية أصوات تناشد مجرّد الاستماع إلى مظلوميات أبناء العشائر، بل ولم يتم الاعتراف بها أساساً، انطلاقاً من أن المرحلة الآن هي للفيدراليات العربية الشرق أوسطية، والمهمة اليوم تتمثل في السيطرة على الحدود السورية العراقية، وإحكام الخناق على الدولة السورية والاقتصاد السوري، وفي المزيد من زعزعة الأوضاع المعيشية، في محاولة لانتزاع تنازلات سياسية. ولكن ذلك لم يتكشف إلا عن المزيد من النزعة العبثية، فواشنطن فشلت في «تقويض النظام»، ومن ثم في «تغيير سلوكه». وها هي، خلال أقل من أسبوعين من اندلاع التوتر، محشورة في زاوية ميتة، وفي مواجهة خيارات عملية محدودة، وقد فشلت في استئصال العداء بين مجموعات تحالف أسمته – كيفما اتفق – «قسد» الديموقراطية!!
شكلت انتفاضة العشائر، تدعمها عوائل كردية سورية لا تخفي استياءها وتململها من الوضع القائم، المفاجأة التي كان الأمريكيون آخر ما ينتظرونه.. لقد تمثلت أقصى استراتيجياتهم في القدرة على الحفاظ على «استقرار» نسبي يوفر لهم إمكانية التخطيط والتنفيذ العملياتية، في منطقة هشة أساساً، وبعيداً عن أية منغصات محلية. تستشعر الولايات المتحدة الأمريكية خطورة أي تغييرات في الأوضاع الراهنة التي قامت على رعايتها وتأمين الحماية السياسية والأمنية والعسكرية لها طوال السنوات التسع الماضية، لتجد نفسها اليوم فوق الرمال السورية المتحركة، تتحسس التهديدات الداهمة لأية قوة منظمة، أو أية قوة قادرة على التعبئة خلال ساعات قليلة، بمجرد الإعلان عن كلمة سر. لقد تبدلت المعطيات على الأرض، وهناك صراعات جديدة لطالما تعامى المحتلون وعملاؤهم عن النظر فيها أو التفكير بها. فـ «قسد» مخترقة أفقياً وعمودياً، وهناك ما يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تخشى منه بشكل جدي.. أن تشعر بالخوف، وتتحسب لمفاجأة محتملة، ولم يعد ممكناً التلطي وراء محاربة «داعش».
هناك قطب مخفية، رسائل شبه سرية، غموض مثير قد يكون حافلاً بفرص عديدة.. ومهما يكن، فلا عودة للوراء أبداً، ولن ترتاح قوات الاحتلال الأمريكية بعد اليوم.. والباقي تفاصيل صغيرة.