“صمت الظّل” يفتح قريحة النّقد ونقد النّقد
نجوى صليبه
لم يكن حفل توقيع كتاب “صمت الظّل” للشّاعرة مديحة باراوي – الذي أقامه فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب – صامتاً أو ساكتاً، بل كان يضجّ بالنّقد الصّريح والواضح، سواء أكان هذا النّقد سلباً أم إيجاباً، وأمّا البداية فمع الأديب رياض طبرا الذي يقول: “لن أصادر رأي القارئ إن قلت إنّ هذه المجموعة الشّعرية مميّزة، وفيها إعمال للفكر واختيار حسن، ويبدأ الصّمت من القلوب ودولة تلك القلوب القائمة على الحبّ والشّعر عبر التّحليق عالياً في سموات الحرف وتألّق الرّوح، بعد عهد من السّرية ما بين الحبيبين حتّى إنّ سرّهما لا يدري ما السّرّ”، ويستشهد:
ليس يدري سرّنا ما سرّنا هو عهد الله وعد القدر
ومضة منك ومني كلمة ليفيض الشّعر بين الأسطر
وتتابع مشوارها في الصّوفية وتذهب إلى ما هو أبعد من القلب ورفيقه، إلى حوار مع الشّمس، تقول:
ألملم اللؤلؤ المكفوف في زمن
ضنّ المحار به والماء عرّاه
مكتوبة بمداد الماء أسئلتي
وبين كلّ سؤال تسكن الآه
أحاور الشّمس هل لي خلفها أملٌ
بالضّوء أم سرقت منّي مراياه
وفي اختيارها للكلمات والمفردات، يرى طبرا أنّ الشّاعرة ابتعدت عن المفردات المهجورة والتّعابير المكررة، واختارت لغةً تتّفق مع هدوئها ورصانتها، ويضيف: “كذلك الأمر في قصيدة النّثر، أحسنت الإيجاز وسلامة الفكر والمعنى واللغة”.
“في مدح مديحة لاسمها رسم تكنز فيه ريح كفّها غيوماً تهمي صباحات فلّ ونور” يقول الشّاعر منير خلف، ويستشهد:
عشقت مديح الطّيبين لأنّ لي نصيباً كبيراً خيّر الكفّ من اسمي
يمرّ يراعي فوق كلّ صحيفة مرور أكفّ الرّيح في غيمة تهمي
وينوّه خلف بأنّ هناك نصوص لم يحالفها حظّ الالتفات إليها، مضيفاً: “منها النّصّ الذي حمل عنوان “على شرفات الأمل”، حيث اعتمدت على القافية علماً أنّه جاء محروماً مطروداً من رحمة أوزان الخليل وإيقاعات بحوره، فكيف بشاعرة تجيد كتابة الموزون المقفى ثمّ تلجأ إلى كتابة نصّ نثري لا مسوّغ لاعتماده القافية فيه، مثالنا هنا ما ذكرته في الصّفحة التّسعين، إذ نقرأ: (الصّفحات، الاحتمالات، السمات، الحياة)، كما استوقفني موقف الصّعود في صدر البيت الثّاني من قصيدة “يرتاح عشبي في أرضي” حيث تقول: “بريق عينيك صبح في بدايته” لنتفاجأ بحالة الهبوط، إذ يأتي عجز البيت عاجزاً عن تتمة صعوده في الصّدر، حين تابعت قولها خلافاً لما يتوقّعه موقف الصّعود “نسائم تتهادى ثمّ تغترب”، كذلك في صدر البيت السّادس تتابع الحالة الشّعورية سموّاً نحو مصاف بلاغة الحبّ، تقول مديحتنا: “وفي أمس الهوى يحتار بي قلمي” ليتعثّر قلمها حقيقة لا مجازاً هنا من ناحيتي: الهبوط حين تكبح الشّاعرة حالة عروجها باحتباس تلك الحالة وتوقيفها على “أنت المراد وأنت الأهل والنّسب”، ومن ناحية حيرة القلم في اختيار المناسب من اللفظ واختياره غير الموفق إذ لا وجود في العربية للفعل “احتار” وإنّما “حار” وربّما هيمنت سطوة الإيقاع وسلطته لتقول: “احتار” تلبية لرغبة الإيقاع وإخماد نار شهوته العروضية”.
وفي تجليات الأنا تبحث الدّكتورة ريما دياب وتقول: “سعت الشّاعرة إلى عالم خفي خلف أنسجتها اللغوية ورموزها لتلامس معالم النّفس الإنسانية وعالمها المتموّج والمتخفّي في اللاوعي لحظة صياغة هذه النّصوص”، وأمّا ضمير الأنا فقد استحال ثيمة وأيقونة اعتمدت عليه الشّاعرة في نصوصها أجمعها كعلامة سيميائية يصلح أن يكون نواة دلالية رئيسة، وتشكّلت اللغة بضمير المتكلّم لإثبات ذات الشّاعرة والانتماء والهوية، ووصف حالتها الشّعورية التي كانت تمتلكها لحظة المخاض الشّعري، فكان ضمير الأنا قائماً لذاته وبذاته ومستقل عن غيره، وقد أثبتت الشّاعرة بصوتها القوة لتحدد ذاتها وقدرتها على استيعاب الواقع في الكشف عن المكوّنات النّفسية، وتجلى صوت الأنا بقوّة في شعرها “أنا القصيدة” أنا أكتب إذن أنا موجودة، ولا شكّ في أنّ الاشتغال على الضّمائر في النّصّ الشّعري يعني التّحكّم في النّصّ، فعبّرت بضمير الأنا عن تجربة شعورية وجدانية، وشحنت الضّمائر بدلالات متنوعة، إذ زادت من قيمة اللغة الشّعرية، وأوجدت مداخل عدّة لقراءة النّصّ مهمّة، مضيفةً: “الشّاعرة عاشت في الغربة، ولا شكّ أنّها تحرّرت من قيود المجتمع الذّكوري، لكنّها خرجت عن صمتها لتبوح بشعرٍ جميلٍ، يصبّ في بؤرة إبلاغ متعالية من خلال تضخيم الذّات والأنا، فظهرت بصوت المرأة القويّة الأصيلة وهذا ما كررته بقولها “أنا مهرة”، هتفت بأناتها العالية وكشفت عن رؤى إبداعية عدّة، وعبرت بشعرها النّسوي عن مشاعر المرأة وهمومها، لذلك لم يكن مفهوم الأنا في شعرها يدور حول حبّ النّفس والتّعالي والسّيطرة على الجموع، بل هو حبّ للوطن واعتزاز باللغة العربية، ونحن اليوم بحاجة إلى صوت نسوي يعلو ويرفع من قيمة المرأة، مضيفةً: “لقد وافقت مديحة بين الرّؤى الفكرية والفنّيّة في نسيج وتكوين النّصّ الشّعري، فلم تغب عن وطنها في شعرها أبداً:
أنا من دمشقَ واسـمُ أمي غوطةٌ وعليّ كلّ العائدين تعرفوا
كسّرتُ صخرةَ غُربتي في ليلة كانت بنا بعضُ الأماكن ترأفُ
قراءات مختلفة ومتعددة شجّعت على نقد النّقد، يقول الأديب أيمن حسن: “شعرت أنّنا لم نعط الشّاعرة حقّها، أنا أعرف أنّ احتفالية توقيع الكتاب تشدّ الحضور إلى ى قراءة الدّيوان، وما حصل مسألة أخرى، فالشّاعر منير خلف دخل في مسألة التّفعيلة وبدأ بتقديم نصائح للشّعراء، شعرت أنّ هذا الخطاب ليس لهذا الجمهور فالدّراسة المتخصصة لها مكانها، وأمّا الدّكتورة ريما فدخلت في علم النّفس، وأنا بصراحة لم يعد عقلي يحملني عقلي ولا سيّما عندما قالت إنّ الشّاعرة فاقت المتنبي!!.. يجب أن نكون متواضعين ونقول: هذا رأينا الشّخصي.. أمّا الأديب رياض طبرا فكان أكثر موضوعية وتوازناً بحيث أعطى الأشياء حقّها، أنا قرأت الدّيوان سابقاً وما فيه أجمل بكثير ممّا سمعتموه”.
بدوره، قال النّاقد الدّكتور أحمد علي محمد: “القراءة النّقدية أشبه بولادة ثانية، الخطيئة الأولى في النّص هي الإمعان في الذّاتية، أي عندما يكون النّصّ أسيراً بين أصابع المنشئ يأتي النّاقد وينقله من دائرة الذّاتية المحدودة إلى الدّائرة الجماعية، القراءة النّقدية متعددة الأبعاد ومجموعة الآراء تؤدّي إلى التّكامل ولا أستطيع قول إنّ هذه القراءة أو تلك خارج إطار ما نحن فيه.
أمّا الأديب صبحي سعيد فقال إنّه من أنصار النّقد وإنّه سمع قراءات متعددة يمكن أن نتوقّف أمامها، مبيناً: لقد دفعتني هذه القراءات إلى أن أسعى إلى قراءة النّص، لكن برأيي القراءة تحتاج إلى عمق”.
الدّكتور إبراهيم زعرور رئيس فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب قال إنّ جماليّة الأدب في القراءات المتعددة، مضيفاً: أنا لا أستطيع مصادرة رأي أي أحد، وكلّ شخص يعبّر عن رأيه وقراءته وهذا أمر طبيعي، دائماً هناك وجهات نظر متعددة ونحترمها جميعها.