الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي مجرد مفهوم فارغ
عناية ناصر
أوروبا عالقة في ظاهرة غير طبيعية، فكلما اتبعت الولايات المتحدة، كلما أصبحت أضعف، الأمر الذي يدفعها إلى اتباع واشنطن بشكل أكبر، ولذلك فإن التحرّر من هذه الحلقة المفرغة يعتبر بمثابة مشكلة ملحة يتعيّن على زعماء أوروبا أن يعالجوها.
حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السفراء الفرنسيين في اجتماع عقده مؤخراً في باريس من أنه مع تغيّر النظام العالمي، فإن الوضع يصبح “أصعب وأكثر تعقيداً”، الأمر الذي يعرّض لخطر إضعاف الغرب وأوروبا على وجه الخصوص. لا تعتبر ملاحظة ماكرون دقيقة تماماً، فكلمة “خطر” تتعلق عادة بأحداث مستقبلية، ولكن إضعاف الغرب جارٍ بالفعل. والواقع أن أوروبا، بل وحتى الغرب ككل، ظلوا لفترة طويلة في حالة من الانحدار والتراجع، ولن يتوقف مثل هذا الاتجاه. وقد تدهورت مثل هذه الأزمة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. فمن ناحية، اكتسب حلف شمال الأطلسي، على خلفية الحرب، وفي ظل قيادة الولايات المتحدة المزيد من القوة للسيطرة على الشؤون الأوروبية، وخاصة ما يتعلق بالأمن. لقد أصبحت أوروبا الآن مقيّدة بعربة نظام الهيمنة العالمية الأمريكية، الأمر الذي أدى إلى إضعاف استقلالها الاستراتيجي ووعيها الذاتي بشكل كبير.
من ناحية أخرى، بينما يصرّ الغرب على فرض عقوبات على روسيا بسبب الحرب، اختارت معظم الدول اتخاذ موقف محايد بدلاً من أن تحذو حذوه، ومع تزايد تباعد واختلاف وجهات نظر وقيم بلدان الجنوب العالمي عن وجهات نظر وقيم الغرب، فإن الشعور المتزايد بفقدان السيطرة على العالم يؤرّق الدول الغربية!.
ومع تهميش الغرب تدريجياً في المجتمع الدولي، وهو أمر يدلّ على ضعفه، فإنه لا يزال يرفض الاعتراف بهذه الظاهرة أو البحث عن أسبابها الجذرية. وبدلاً من ذلك، يبدو أن بعض الدول الغربية غير قادرة على التخلي عن وجهة نظرها التي عفا عليها الزمن والتي تتمحور حول الغرب. على سبيل المثال، انتقد ماكرون في خطابه مع السفراء “مناهضة الاستعمار أو ما يتمّ تصوره على أنه مناهضة للاستعمار”، لأنها تؤجّج المشاعر المعادية لفرنسا، فضلاً عن “معاداة الغرب” من آسيا إلى أفريقيا.
تدلّ وجهة النظر هذه على أن بعض الزعماء الأوروبيين يرفضون التكيّف مع عالم جديد، حيث يفقد الغرب هيمنته على النظام العالمي وقواعد التعددية القطبية. لقد بدأ نفوذ أوروبا في آسيا إلى أفريقيا في الانحدار بالفعل، ويُعزا هذا الانحدار إلى حدّ كبير إلى العقلية الاستعمارية المتعالية التي طال أمدها في أوروبا تجاه هذه البلدان والمناطق. ولم تقدّم فرنسا والدول الأوروبية الأخرى القدر الكافي من المساعدة للدول النامية، وحتى عندما تفعل ذلك فإن مثل هذا الدعم يأتي غالباً بشروط تتعارض مع تنمية أفريقيا استناداً إلى الإيديولوجية الغربية. وفي تناقض صارخ مع دعم الصين الثابت للدول الأفريقية في اتباع مسارها الخاص في التنمية، فإن النهج الذي يتبناه الغرب تجاه هذه الدول جعل الغرب غير جدير بالثقة.
وبالإضافة إلى المركزية الغربية، أدى الانصياع الأعمى للولايات المتحدة أيضاً إلى حصار أوروبا في مستنقع إضعاف نفسها، وأصبحت أوروبا بيدقاً في أيدي الولايات المتحدة، وتعمل على الحفاظ على هيمنة واشنطن العالمية وتوسيعها.
وفي الاستجابة لصعود الدول النامية مثل الصين، تبنّت أوروبا عقلية المواجهة وعقلية الحرب الباردة، وفي ظلّ الخطة الشاملة التي تبنّتها الولايات المتحدة، فقد أصبح الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي اليوم مجرد مفهوم فارغ، ولا ينبغي لأوروبا أن تلوم إلا نفسها على موقفها الضعيف.
أوروبا الآن واقعة في مشكلة، فمن ناحية، تشكّل جزءاً من التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي تتمتّع فيه بجزء من المكاسب المؤسسية. ومن ناحية أخرى، لا بدّ من الإشارة إلى أن أوروبا ليست القوة المهيمنة في التحالف، بل الولايات المتحدة التي تجني معظم المكاسب من التحالف، بينما تحول المزيد من التكاليف والمخاطر إلى الأوروبيين، ويتعيّن على الأوروبيين أن يقرّروا بأنفسهم ما إذا كان من المفيد أن يقتربوا من الولايات المتحدة.
لقد أظهرت قمة “البريكس” التي عُقدت مؤخراً النفوذ المتزايد للدول النامية، إذ لا تحتاج دول الجنوب العالمي الآن إلى الاعتماد على المساعدات والدعم المنحاز والمدفوع بأيديولوجية من الغرب. كما يمكنهم أيضاً الشروع في مسار تطوير مستقل ويناسبهم بشكل أفضل، وإذا كانت أوروبا راغبة في تجنّب إضعاف نفسها، فيتعيّن عليها أن تتبنّى التعددية القطبية وأن تعمل على تعزيز استقلالها الاستراتيجي.
وفي هذا السياق قال غاو جيان الباحث في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية: “إذا كانت أوروبا تريد حقاً أن تسلك الطريق الثالث كما يقترح ماكرون، فيجب أن تصبح القارة أكثر انفتاحاً وتسامحاً، وأن تظهر إرادة موحّدة وقدرة على اتخاذ إجراءات عملية، ومواكبة الاتجاهات العالمية”.