الفيتو الروسي ليس حكراً على الشرق الأوسط.. مالي أنموذجاً
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
وجّهت روسيا عبر استخدامها حق النقض “فيتو” ضدّ مشروع قرار يستهدف تمديد فرض العقوبات الاقتصادية على مالي صفعة كبيرة لقوى الغرب و”الناتو”، وفي مقدمهم أمريكا التي نصّبت نفسها كصانع قرار للعالم، ومستخدم أساسي حصري للفيتو خدمةً لمصالح الكيان الإسرائيلي لتغطية جرائمه الوحشية ضدّ الشعب العربي والفلسطيني، وتبرير ممارساته في بناء المستوطنات وتهجير الشعب الفلسطيني.
تكمن أهمية الـ”فيتو” الروسي اليوم في التوقيت، حيث يعدّ الأخطر بالنسبة للمستعمرين الأوروبيين الذين باتوا يخسرون مستعمراتهم القديمة الواحدة تلو الأخرى في الساحل الإفريقي والصحراء والشمال الغربي في إفريقيا، وباتت تلك القوى الناهبة لخيرات الشعوب على يقين بأنها ستواجه انتفاضة عارمة لشعوب القارة السمراء كافةً، بعدما ظهرت الإرادة الشعبية في دعم الجيوش الوطنية للانقلاب على الطغم الحاكمة في عدد من إفريقيا، والتي لم تحقق سوى التبعية للغرب وتأمين بيع الثروات لهم بأبخس الأثمان، ناهيك عن فشلهم في تحقيق التنمية على أي صعيد كان، بل ليكلل ذلك بانتشار قطعان الإرهاب وأخطر التنظيمات التكفيرية في المنطقة، ناهيك عن تجارة الرقيق والمخدرات وغيرها من آفات وكوارث العالم.
لقد اعتادت قوى الغرب على حضّ المؤسسات الإفريقية، وعلى صبّ جهودها الخاصة لفرض عقوبات على مالي والنيجر وبوركينا فاسو، فقط لأنها دول جرت فيها انقلابات على أنظمة موالية للغرب، لكن الفيتو الروسي مع الامتناع الصيني عن التصويت تجاه مشروع قرار “مالي” غيّر مسار هذه المشهد بقوة، ولفت نظر الشعوب إلى مدى فساد فريق الخبراء المسؤول عن فرض العقوبات على دول العالم لمجرّد رفضها تنفّس هواء الغرب الملوث.
لقد تضمنت الرسالة الروسية أيضاً تشجيعاً مبطناً لمالي وكل قوى التحرر في موقفها المتضامن مع النيجر بعد انقلابها على الرئيس محمد بازوم الموالي لقوى الغرب، فقد سبق أن اعتبرت مالي أي تدخّل عسكري من قبل منظمة إيكواس في أراضي النيجر اعتداء على الأراضي المالية يستوجب التدخل ضدّه.
الخطوات الإفريقية الآن تترابط مع تحسين وضع المنطقة العربية وتشدها أكثر ومن عدة جهات نحو معسكر الشرق، وتخلصها من المراهنة على الأمريكي إلى غير رجعة، فمن المعروف أن عدداً من الدول العربية في إفريقيا والمنطقة تبني جزءً كبيراً من اقتصادها على بيع حوامل الطاقة، وأما الآن وبعد التحرر الذي تشهده الساحة الإفريقية من تشكيل سلة مجانية لطاقة الغرب، وخاصةً بعد الانقلاب في الغابون الملقبة بـ”عملاق النفط الإفريقي”، سنشهد أسعاراً أخرى للنفط إفريقياً وعربياً وعالمياً، كما سنشهد مجاعات حقيقية لدى شعوب أوروبا التي كانت بعض شعوبها تقيم مهرجانات للتراشق بالخضار والمعجنات والحلويات وتطعم القمح الأوكراني لحيواناتها، في وقتٍ تموت فيه شعوب إفريقيا من شدّة المجاعات الناجمة عن استعمارها من الغرب وذيوله.
ولا بدّ من القول: إن التحولات في القارة الإفريقية تمثل تجسيداً كبيراً للعالم متعدد الأقطاب، وتعبّر عن فشل في النظام الدولي السائد حالي وعدم قدرته على الاستمرار ضمن المعطيات التي أصرّ عليها في فرض العقوبات الأحادية وفرض الهيمنة على مؤسسات القانون الدولي ومنظماته، بما فيها المنظمات الإفريقية كالاتحاد الإفريقي و”إيكواس”، والتي باتت تعاني هذه اللحظات تصدّعات كبيرة ناجمة عن صحوة دولها تدريجياً ورفضها التبعية للقرار الأمريكي أو الباريسي أو غيرها من قوى الرجعية، كما أن هذه النهضة الإفريقية تعد جزءاً لا يتجزأ من نهضة وتحول شامل لدول جنوب العالم نحو الشرق، لكن لا بد من التذكير بأن هذه التحولات تستند بقوة على تمدد اقتصادي تنموي صيني، وأمني عسكري اقتصادي روسي في هذه القارة، ما شكّل ضمانة ورافعة للنهوض الإفريقي الذي كان لا يجد ما يستند عليه في أي تحرّك ضدّ عصى الاستعمار.
ومع كل هذه التطورات في قارة إفريقيا لا بدّ من ربط ما يجري مع نقطة بدء، والتي لا تتمثل في نقطة الحرب الأوكرانية كما يظن البعض، بل تتمثل في بداية ظهور العالم متعدد الأقطاب في عام 2011، عندما تم استخدام الـ”فيتو” الروسي – الصيني ضدّ قرارات الغرب في فرض العقوبات على سورية لمجرّد أنها تقاوم قطعان الإرهاب التي عاثت دماراً بوحدة وسلامة واستقلال أراضيها، وبدا واضحاً أن هذا العالم الصاعد يرفض ما جرى عليه الغرب من خطوات لتسييس القضايا، والكيل بمكيالين تجاه الدول وفقاً لمصالحه معها، بغض النظر إن كانت على حق أو باطل، وسواء وافقت أم خالفت قواعد القانون الدولي ومواثيقه واتفاقياته.
أما الحرب الأوكرانية فقد أظهرت بوضوح شديد مدى رغبة الدول بما فيها الإفريقية في الحياد تجاه قرارات الغرب في فرض عقوبات على روسيا، أو رفضها التصويت عليها لأسباب عديدة، أولها عدم الرغبة في معاداة روسيا كدولة تقدّم التقنية العسكرية والمساعدة الأمنية والسلاح لدول المنطقة دون شروط أو قيود أو فرض تدخلات في سياسات تلك الدول، كما أنها تقدّم الغذاء من أقماح وحبوب لدول القارة دون أي استغلال ووفق أسعار منافسة إن لم نقل، مجانية، يضاف إلى ذلك نظرة ازدراء دول القارة السمراء إلى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي الذي قدّم بلاده على طبق من ذهب كقاعدة تآمر لـ”ناتو” ضدّ روسيا فكان مثالاً في فشل الرهان على الغرب لكل دول العالم.
كذلك فإن التحولات التي نشهدها اليوم في الساحة الإفريقية هي امتداد أيضاً لنجاحات ومقررات القمة الروسية – الإفريقية، وما أرسته من تقارب وتنسيق تكلل بالنجاح رغم مساعي التعطيل الغربي، ومحاولته تقليل مستوى التمثيل أو عدد الزعماء الحضور، عبر تهديد تلك الدول بلقمة عيشها التي يمتن الغرب بها بعد نهبه لثروات شعوبها بالكامل.
إن الفيتو الروسي اليوم هو رسالة بالغة الأهمية للغرب مفادها بأن العالم قد تغيّر عبر سلسلة معقدة من العلاقات والمعادلات في كل القارات ووفق مصطلحاتٍ لم تكن معهودةً من قبل، فالصعود الروسي الصيني يتواصل، وتتبعه العديد من القوى السائرة على هديه، والتي باتت تفضل التوجه شرقاً أو حتى على الأقل أصبحت تمتلك مظلّة سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية مدعومة بمجموعة من التحالفات والكيانات الاقتصادية الجديدة، والتي تكفل جميعها للدول الحرية في اختيار التوجه سواءً نحو الشرق أو حتى نحو الغرب، ولكن هذه المرة وفق معايير الحرية، وضمن بوصلة تحقيق مصالح شعوبها أولاً.