نساء معنّفات يشتكين من جرح “اللسان”.. وأطفال في مهب الريح!
لم تعد مشكلة العنف الجسدي هي الوحيدة التي تعاني منها المرأة في مجتمعنا، بل هناك مشكلة العنف النفسي الذي تتعرّض له كثيراً في حياتها، سواء أكانت متزوجة أم عازبة، للأسف هذا النوع من العنف بات ظاهرة مقلقة يهدّد الأمن والسلامة للأسرة والمجتمع على حدّ سواء، خاصة وأن الأطفال هم الضحايا بعد فراق الوالدين، والأخطر في الأمر، أن نسبة كبيرة من جرائم العنف النفسي داخل الأسرة تبقى طيّ الكتمان برضا منها كونها تضع في مقدمة أعذارها ضغوطات الحياة التي يتعرّض لها الزوج، ما يجعله يعتبر هذا العنف عادياً أو حقاً من حقوقه ضد زوجته.
نماذج كثيرة
السيدة غصون تحدثت بشجن وألم عن تجربتها الزوجية الفاشلة التي استمرت 15 عاماً وانتهت بالطلاق والحرمان من أولادها الأربعة، هذه السيدة المعنّفة كانت تعرف ضمناً أنه ليس بإمكانها التخلّص من الزواج من خلال القضاء، “فكبست على الجرح ملحاً” بحسب قولها وتحمّلت عنف زوجها، وكانت في كلّ مرة تسامحه من أجل أولادها، لكن زوجها لم يتغيّر في معاملته القاسية لها مما خلق لها الكثير من الأذى الجسدي والنفسي، حتى أطفالها تأذوا كثيراً. السيدة غصون أكدت أنه لولا وقوف أهلها بجانبها ربما كانت أقدمت على الانتحار، لكن بفضلهم تجاوزت محنتها، حيث قدموا كل الدعم لها بأخذ القرار بالمواجهة والدفاع عن كرامتها، حتى تستطيع أن تدخل في معركة محاكم الطلاق التي هي غالباً طويلة الأمد، ولكنها استطاعت النجاة بأقل الخسائر.
وليست حال السيدة وداد بأفضل منها، فهي الأخرى أُجبرت على الزواج من رجل أكبر منها سناً، وعلى الرغم من أنه أظهر لها كلّ الحب والاحترام في بداية زواجهما إلا أنه انقلب على كلّ وعوده وأصبح يعاملها كالخادمة، ويضربها ويشتمها لأتفه الأسباب حتى باتت حياتها جحيماً، وتوضح أنه ورغم المحاولات الكثيرة لإصلاح العلاقة بينهما لكنه استمر بتعذيبها وإهانتها حتى أمام أهلها وكلّ من يزورهم، لتتحوّل حياتها إلى سجن مليء بالعذاب النفسي والجسدي فقرّرت الهرب وطلب الطلاق تاركة طفلتين بعمر الورود.
وجهة نظر الطب
الدكتورة بيلاجيا يازجي اختصاصية الطب النفسي وعلاج الإدمان أوضحت أن مفهوم العنف النفسي يمثّل كلّ أشكال الانتهاك والاعتداء العاطفي الذي تتعرّض له المرأة، كالاعتداء اللفظي والتهديد والوعيد وفرض السيطرة على الممتلكات الشخصية، أو منعها من أشيائها الخاصة، وتحطيم طموحاتها والحدّ من إنجازاتها، وإملاء الأوامر وشتمها بشتائم قاسية، وعزلها عن المجتمع تحت حجج الخوف عليها، ما يشكّل لديها شعوراً بالنقص والدونية والخوف من الانخراط في المجتمع.
عالم الانترنت
ولم تنسَ يازجي التطرّق للعنف النفسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذي تتعرّض له الأنثى عموماً من قبل شبان غرباء، يحاولون ابتزازها وتهديدها، وما ينتج عن ذلك من أزمة نفسية وخوف وخاصة في البيئات المحافظة. كما لم تخفِ يازجي خطورة هذا النوع من العنف الذي يؤدي حتماً لإصابة السيدة المعنفة بأشد أنواع الاكتئاب وأخطرها الذي يدفع بها إلى الانتحار، كما يحول هذا النوع من العنف السيدة إلى متبلدة المشاعر غير قادرة على تكوين شخصية سليمة.
طرق العلاج
وتوضح يازجي أن العنف النفسي من الأنواع التي يصعب على الطبيب أو المعالج النفسي تشخيصها وكشفها بسهولة، لعدم قدرة المرأة على تحديد مشاعرها، ولكن من خلال المتابعة والجلسات العلاجية يستطيع الطبيب تحديدها وإمساك خيوط المشكلة ومعرفة أسبابها والبحث عن السبب الرئيسي سواء إذا كان من سن الطفولة أو بعد الزواج.
حالات كثيرة
وذكرت يازجي إحدى الحالات التي راجعت عيادتها وهي لفتاة في عمر الـ25، تعرّضت لعنف نفسي في طفولتها لأنها نشأت في عائلة مكوّنة من الإناث فقط، وسط والدين لا يرغبان بوجودها وكانت دائماً تتعرّض للتنمّر على شكلها ولون بشرتها على اعتبارها أغمق قليلاً من لون بشرة أخواتها، ما جعل منها فتاة غير مستقيمة ذات سلوك خاطئ، تحاول بشتى السبل لفت نظر الجنس الآخر وجذب الانتباه، ولكن عند اكتشاف حالتها ومراجعة العيادة النفسية وخلق علاقة صداقة مبنية على الثقة مع طبيبها تمّت معالجة الحالة وعودة الشابة لممارسة إبداعها في الفن التشكيلي.
وعي ملموس
وبيّنت يازجي أن الوعي بأهمية الطب النفسي بدأ يأخذ منحى إيجابياً عند العديد من الناس الذين كانوا ضد فكرة زيارة العيادة النفسية لاعتبارات عديدة، لافتة إلى أن 65% من الحالات التي تراجع الأطباء النفسيين هي من المراهقات اللواتي تعرّضن للابتزاز الجنسي وخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والـ35% الأخرى هن من السيدات المتزوجات عبر الزواج التقليدي ورغبتهن بالعلاج ليستطعن تنشئة أبناء أسوياء نفسياً.
معنى عام
من جانبها بيّنت الاختصاصية الاجتماعية ايلين نصر الله أن العنف النفسي يأتي غالباً مرافقاً لكافة أنواع العنف الأخرى، ويأتي منفرداً كذلك في حالات قليلة تكاد لا تُذكر، وفي الوقت نفسه تزيد ضرورة تتبع هذا النوع من العنف ومواجهته وعلاج آثاره لكونه أكثر أنواع العنف الأسري انتشاراً، إذ إنه غالباً ما يرافق أو يتبع الأنماط الأخرى من العنف الأسري، وكثيراً ما تمتد آثاره في خطورتها لتتجاوز آثار العنف الجسدي والعنف الجنسي,
وتوضح نصر الله أشكال وأنواع العنف الأسري، حيث لا يمكن الفصل بينه وبين العنف الجسدي، لأنهما في معظم الحالات يجتمعان سوية، ويتفرع هذا العنف إلى عدة أنواع أشدّها الجسدي كالضرب والاعتداء، والعنف النفسي وما ينتج عنه من ضغوط نفسية والابتزاز العاطفي، والعنف اللفظي كالشتم والاستهزاء بالألفاظ والسخرية، والإهانة، والحطّ من قيمة الضحية، أو إشعارها بالخجل، ودفعها إلى فقدان الثقة بالنفس، وآخرها العنف الاقتصادي كتقصير الزوج في الإنفاق على زوجته وأسرته، أو سلب حقوقها مثل (الميراث).
غياب الوعي
وتؤكد نصر الله أن غياب الوعي بدور المرأة الفعّال في الأسرة وكونها نواة المجتمع يعدّ من أهم أسباب تعنيفها نفسياً، يليه الفهم الخاطئ لأدوارها، نتيجة الجهل وغياب الوعي مما أدى للتقليل من دورها كربة منزل، إضافة إلى غياب المجتمع الأنثوي، ليس المقصود هنا مجتمع أنثوي معادٍ للرجل أو داعٍ لانقسام المجتمع، وإنما مجتمع أنثوي داعم وحاضر في المشاركة المجتمعية الآمنة للمرأة واحترام دورها في المشاركة ببناء المجتمع.
آثاره خطيرة
وبيّنت نصر الله الآثار السلبية الخطيرة للعنف النفسي الذي “يصنع” من المرأة شخصية جبانة وضعيفة، وتضطر أحياناً للكذب لحماية نفسها من العنف، وفقدان الثقة بالشريك بشكل خاص وبالمجتمع من الطرف الآخر، وهذا ما قد يدفعها للانتقام بصورة غير سليمة مثل “القتل، الانتحار، الإدمان على المخدرات، أو السرقة”، إضافة إلى التردّد وعدم القدرة على اتخاذ القرارات السليمة.
أما الآثار الاجتماعية فتتجسّد في ارتفاع نسب الطلاق وبالتالي التفكك الأسري، وتأثر العملية التربوبة، لما للعنف من أثر على الأم وبالتالي الأطفال.
الحد من الظاهرة
وتؤكد نصر الله أهمية اتخاذ العديد من الإجراءات التي من شأنها الحدّ من تعنيف المرأة بأي شكل من الأشكال، ودعت لعقد ندوات اجتماعية تحثّ على الابتعاد عن لوم الضحية وتحميلها الذنب في كل شيء، من خلال نشر الوعي وتدريب الفتيات على كيفية حماية أنفسهن من العنف، وضرورة التعرف على الحدود الصحية بين العلاقات وتشجيع المرأة على التعبير عن نفسها وخلق مساحات آمنة لها، وتشجيعها على إبلاغ الجهات المختصة عند تعرّضها للعنف أو مشاهدة أحد أشكال العنف ضدها، حتى نرتقي إلى مجتمع سليم معافى بعد أن أرهقته سنوات وفوضى الحرب.
دعاء الرفاعي