قصّة وغصّة!
عبد الكريم النّاعم
سأروي لكم قصة، وهي ليست من بنات الخيال، أو من كتب التراث، بل شخوصها واقعيّون، وسأحتفظ باسم راويها قليلاً. كان الرّاوي يتجوّل في أحد شوارع دمشق برفقة صديقه التاجر الدمشقي، وفجأة رأيا شابّاً بكامل شبابه يعتدي على رجل تقدّمت به السنّ، فأسرعا وأبعدا الشاب، وحميا رجلاً يبدو عليه الكبر والانكسار، وكان يبيع علب البسكويت في الشارع للمارّة، وقال له أحدهما: “يا عمّ ما الذي أجبرك على بيع علب البسكويت، وأنت في عمر متقدّم؟”.
قال الرجل بانكسار: “يا ابن أخي، زوجتي مريضة، وراتبي التقاعدي لا يكفي لشراء دواء لها، لقد بعتُ كلّ ما يُباع في البيت، البرّاد، وفرن الغاز، حتى قنّينة الغاز بعتها، وأحاول أن أزيد دخلي بطريقة ما”، قال له التاجر: “هل نستطيع شرب كأس شاي في بيتك؟”.
دخلوا البيت فوجدوا شبه حصيرة ممدودة في الأرض، فجلسوا عليها. رحّب الرجل. يقول الراوي إنّه رغم خبرته بالشاي كان أطيب شاي شربه، وحين قاما طلب التاجر من الرجل وصفة الدواء لزوجته. وفي اليوم التالي وقفت أمام بيت الرجل شاحنة، وعمّال، وقد حملوا إلى البيت برّاداً، وغازاً مع قنّينته، ففوجئ الرجل، وقال له التاجر: “الصيدلية القريبة من بيتك، أعطيتها ثمن الدواء لمدّة عام”، وخرجا..
هذه القصّة رواها على صفحته الشاعر السوري الحمصي المعروف عبد النبي التلاوي.
*****
في ركن من أركان مقهى، جلس عدّة أصدقاء يناقشون ما قرؤوا. قال الأوّل: “هذا التّاجر قلبه مليء بالرحمة، والبذل”. قال الثاني: “برغم أنّي مقتنع بأنّ في التجّار بعامة ميلاً للجشع، ودليل ذلك ما يتلاعبون به من أسعار، غير مبالين بأنّ الأكثريّة صارت عاجزة عن تأمين اللقمة الضروريّة، رغم ذلك ففيهم مَن يشذّ عن القاعدة، وهو تأكيد لها”. قال الثالث: “أنا أنظر للأمر من زاوية أخرى، وهي أنّ ما قام به هذا التاجر يُفترَض أن تقوم به مشاف حكوميّة، وهذا حقّ المواطن على دولته، ومن حقّه أن يتعلّم مجاناً، من المرحلة الابتدائيّة حتى الجامعيّة”. قاطعه الأوّل: “وإذا لم يكن ذلك متوفّراً، هل نمنع أن يتقدّم بذلك رجال يحملون وجداناً حيّاً؟”. قال الثاني: “لا، بل هو مطلوب في الظروف الاستثنائيّة، وليت مثل هذا الفعل يتوسّع، تطبيقاً للخبر المروّي، عن الخليفة الثاني، حين لمس تفاوتاً طبقيّاً بدأ ينتشر بين الناس “أكاد آخذ من أموال الأغنياء ما أسدّ به حاجة الفقراء”، فإذا أضفنا إليه ما قاله الخليفة الرابع (ك): “ما مُتّع به غنيّ إلاّ بما جاع به فقير”، علمْنا أين مَكمَن العلّة، فالذين تغوّلوا في بلادنا، لاسيّما أثناء الأزمة الخانقة التي نمرّ بها، والذين لا يعرفون كيف يصرفون ما جمعوه، بل أُتْخموا حتى الغرغرة،.. هؤلاء حازوا أموالاً لا يصرفون منها شيئاً في سبيل البناء الوطني، فهو رأسمال طفيلي يتناسل فيما لا يفيد غير هذه الطبقة الماصّة للدماء”.
قال الثالث: “أوافقك على كلّ ما قلت، وأضيف إليه ما تقوم به بعض مؤسّسات خيريّة، والتي غرضها تقديم يد العون، بقدر المستطاع، وقد لا يكون جديراً بالذكر، ولكنّه يدلّ على روح طيّبة، تشعر بآلام الآخر..”.
قال الأوّل: “في البلدان المتقدّمة هل سمعتم عن مؤسّسات كهذه؟ بالتأكيد الجواب: لا، وذلك لأنّه من مسؤوليات المؤسّسات الحكوميّة، فالذي لا عمل له يُعطى ما يسدّ حاجته، وأخصّ بلدان أوروبا، لا الولايات المتحدة التي يُضرب المثل فيها في عدد المشرّدين، والذين لا مأوى، ولا عمل لهم، وتطرح نفسها كنموذج يُحتذى”!!
aaalnaem@gmail.com