الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

عصر التوحد الاجتماعي سلطة عالمية

غالية خوجة

لماذا استلبت الشبكة العنكبوتية العلاقات الاجتماعية الواقعية، واستلبت الحياة، وجعلت الغالبية منا مستهلكين لا منتجين؟..

أصبحت الذات الفردية تعاني من حالة من العزلة لدرجة “التوحّد التكنولوجي”، وانعكست هذه الحالة على العالم المحيط، واتسع “التوحد الإلكتروني” ليصير حالة من التوحّد الاجتماعي الذي بدأ من الأسرة ليشمل الأقرباء والأصدقاء والجيران والمعارف والزملاء، فلم نعد نعيش تلك الجلسات الاجتماعية ببثّها الواقعي المباشر، وأجوائها المفعمة بالمودة والمحبة والروح المرحة، والحكايات المتكاشفة للأحداث التي يمرّ بها كل فرد من المجتمعين معاً.

ولم تعد مائدة الطعام تلمّ شمل العائلة، بل أصبحت الشبكة الإلكترونية عائلة العائلة، ولم تعد الحكايات الشفوية الموروثة مصدراً للتربية والذكاء وتنمية المخيلة وشريكة السهرات مثل قمر الصيف ونار الشتاء، واختفت المشورة والآراء المتبادلة، وغابت الضحكات العفوية المزهرة، وحضرت الشاشة وسيطاً جامداً للعلاقات الأسرية والاجتماعية، وأصبحت ذاكرة بلا مشاعر تحتفظ بما فعلناه أو نشرناه في مثل هذا اليوم.

وليت هذه الوسائل الجامدة تكتفي بذلك، بل تستنطقك باستمرار: ماذا يحدث؟ بماذا تفكر؟ وتخبرك: تمّ تقييد حسابك لمدة كذا، دون أن تعلم لماذا تمّ تقييد صفحتك! وماذا تجاوزت من القيم والمعايير رغم أنك الأفضل في تطبيق القيم والمعايير في حياتك الشخصية والاجتماعية والإلكترونية؟!

والملفت، أن الشبكة العنكبوتية أصبحت سلطة تكنولوجية عالمية دون أن نعرف من هي تلك الجهات العالمية التي تديرها وما معاييرها وما قيمها؟ ولماذا تختلف عن قيمنا الجميلة رغم أن أغلبيتنا تعلم بأنها تدار لأهداف قريبة وبعيدة؟

لذا، لا بدّ من حالة عامة من الوعي المتيقّظ، والحفاظ على منسوب فاعل منه، خصوصاً، لدى الأطفال والجيل الشاب، ولا بدّ من منهجية متكاملة، منها تخصيص حصص للتوعية التكنولوجية – لا تعليمها، لأنه موجود – في المدارس والمعاهد والجامعات، ولقاءات خاصة بالأهل ليكونوا على علم بتأثير وآثار هذه التكنولوجيا، وتفعيل جلسات حوارية ثقافية تكنولوجية يستمع فيها بعضنا لبعض حول هذه الهموم واقتراحات الحلول.

وانطلاقاً من هذا الوعي، ليسأل كلّ منا نفسه: كم ساعة من عمره يقضيها أمام الشاشة؟ وماذا لو حدّد الأهل ساعات معينة لاستخدام هذه التكنولوجيا؟ وماذا لو وظّف كل منا هذه الساعات العمرية التي يقضيها متوحداً مع الشاشة في تفعيل عقله ومخيلته وجسده بين القراءة والالتقاء الواقعي مع الأهل والأصدقاء والزملاء، وبين التأمل والرياضة وتنمية المواهب والإنتاج الذي يحبّ؟

الحياة رحلة قصيرة لا تحتمل كلّ هذا التشتّت والشتات والمطاردة الإلكترونية، ومعنى الحياة الحقيقي ليس وراء الشاشة، وهذا ما سيدركه الجميع. لكن، في وقت متأخر جداً، ربما في المقطورة الأخيرة من العمر، وبعد فوات الأوان، سيتساءل من فاتته جماليات الحياة: لماذا لم أجلس مع عائلتي التي لم تعد موجودة حولي؟ لماذا لم أتواعد مع أصدقائي لتكون جلستنا مفعمة بالمحبة والضحكات والفضفضة؟ لماذا لم أقم بزيارة أمي وأبي رحمهما الله؟ لماذا لم أسهر مع أحفادي لأحكي لهم حكاية رواها لي جدي فتعلّمت منها الحكمة؟ لماذا لم أستمع لكلمات أمي وهي تجلس قربي وتحادثني وتهتمّ بي؟.

وعندما ستستوقفك صورة قديمة لأسرتك وأصدقائك ومعارفك، منهم من هو حيّ، ومنهم من مات، ستقف وراء كواليس ذاكرتك متحسراً، متسائلاً: هل سيعود الزمان لأجلس أكثر معهم؟ حينها، ستأخذك الحالة الوجدانية من اللحظة الجامدة إلى لحظة الحياة المتحركة في أعماقك، مستذكراً كيف كانت لهفة أمك تنتظر تفاعلك الجميل، لكن أملها خاب فانطوت على ذاتها، وعادت لذكرياتها مع جيرانها وقهوتهم أمام البيت، أو في المزرعة، أو معك عندما كنت وأخوتك صغاراً.