مجلة البعث الأسبوعية

ناس ومطارح.. أبو زين وأم زين، و”باليه” على الطريقة الدمشقية

تمّام بركات

في قلب دمشق، وفي واحدة من حارات “الصالحية” المتفرعة عن شارع البرلمان، يظهر وسط زوبعة العتمة، التي يثيرها غياب الكهرباء، عن ليل دمشق، ضوء خافت عموماً، لكنه واضح وأكيد “ليس سراباً”، ينوس باطمئنان من قلب مكان صغير، غير واضح المعالم، التي تعوم في غيمة حليب ضوء اللدّ، غير أنه جلي الرائحة، وهي وحدها في العتم، من يقود للألفة.

مع الاقتراب أكثر منه، تتوضح الرؤية رويداً رويداً، ويظهر في غبش الضوء الخافت، خيالان يروحان ويجيئان في مساحة المكان الصغيرة، وبتناغم يخاله الناظر رقص باليه، ليكتشف فعلاً عندما يصل إليه، أن ما يجري أمامه، هو رقص باليه، ولكن على الطريقة الدمشقية الخاصة.

من على بعد عدة أمتار من المكان، تتضح الصورة، رجل وامرأة، يعملان على تجهيز طلبية طعام، من مطعمهما، أبو زين يقف خلف مقلاة البطاطا، وأم زين توضب “الساندويش” قبل تقديمه، وفي الفسحة المتوفرة أمام المحل، يلعب زين -2015-مع عسل-2018-ومن موقعه في “الكريجة” يراقب كرم -2023-إنها عائلة الدكتور محمد قصقص، جميعها على خطوط العمل.

السيد محمد قصقص 1991 والسيدة أنوار 1994، صيدليان، بحكم دراستهما، طباخان بحكم شغفهما والظروف أيضاً، قاما بتركيب الكيمياء الخاصة بعواطفهما أولاً، عاشا قصة حب بديعة، فمحمد، شاعر وعازف عود، أسرت قصائده المموسقة على رجفان قلبه، قلب أم زين، وأسرته بحبها اللا محدود، ووعيها الكبير، الذي جعلها تتخذ قرارها بالوقوف معه على السراء والضراء فعلاً، وفعلت، كما فعل عندما وعدها بحب لا ينتهي، وجهد لا تقاعس فيه وعنه لإسعادها.

فلاش باك

عام 2016، المكان نفسه، نهاراً.

امرأة أربعينية تقف خلف الواجهة الزجاجية اللامعة، لواحد من المطاعم الشعبية، التي لا زالت صامدة في قلب العاصمة، وسط الموجة الجديدة من المطاعم التي تحمل أسماء “برندات” عالمية، والتي يمكنك فيها أن تأكل خبز “الباغيت” الفرنسي طازجا، وخلفها وأمام “الغريل” يقف رجل خمسيني أشيب الشعر، يُشرف على طهو بعض الأطعمة السورية الخفيفة، البطاطا المقلية الخارجة تواً من المقلاة، وأقراص الفلافل الخضراء، التي نزلت لتوها للسباحة في الزيت الحامي، المشهد مع الرائحة يخطفان الأنفاس حرفياً، إنهما أبو محمد وأم محمد، يعملان برضا يقطر من ملامحهما، فطلاب المدارس والمعاهد القريبة، على وشك الخروج من المدارس، ومطعم آل قصقص، مقصدهما، لأسعاره “الرحمانية” مقارنة بما يحيط به من مطاعم، وللألفة التي يشيعها في المكان، فوجود أم في المطعم، جعله أقرب لبيت الخالة الواقع على طريق المدرسة، وفرض شيئاً من التهذيب والاحترام، عند الزبائن الذين يًعاملون كأبناء، في طعامهم أولاً، مهما كان عددهم.

في الفترة التي راحت الأسعار فيها ترتفع بشكل هذياني، حتى أصبح سعر ساندوتش الفلافل، يعادل نصف أجر يوم عمل، تراجع العمل في مطعم أم محمد، وباعتباره من المنشآت “الدرويشة” كما يقال، فإنه إن لم يعمل، لن يكون بمقدوره الاستمرار، فلا فائض مالي يمكن الاعتماد عليه، وهذا النوع من المشاريع العائلية الصغيرة، ليس من الأنواع التي تفضلها مشاريع الدعم الحكومي، فقررت العائلة إغلاق المطعم، الذي أسسته بروحها أولاً، وحلمها بنجاح يدعم العائلة ويقويها، على خوض مشاق الحياة وتحقيق الأحلام ما أمكن.

في فترة الخدمة الإلزامية التي قضاها محمد في حمص، تعرف على الدكتور مجد، “ابن دورته” حكا محمد عن أكثر ما يتمنى فعله، بعد التسريح، افتتاح المطعم، الصدق الذي وصل رفيق السلاح، من حديث رفيقه، جعله يعرض عليه بعد عدة أعوام، إعادة افتتاح المطعم، بتمويل منه، وعمل من محمد.

ما فعلته أم محمد، السيدة التي تخال العطاء أبداً، فرضاً مقدساً، تعيده “الكنة” مع الابن، فتأمين تكلفة افتتاح صيدلية لهما، ليس متاحاً الآن، والرجل الذي أحبته واختارته زوجاً، يقرر أن يكون موضوعياً مع الظروف، وعملياً في تجريب تغييرها، وهي تثق برأيه، وحيث يكون تكون، وهذا ما كان.

أنهت أم زين توضيب طلبية “سفري” ونادت على زين، القريب، ليوصل الطلب، تقدم هذا الشاب الصغير بأدب جم من والدته، أخذ الطلبية ومضى مرحاً، بعد أن لاعب كرم قليلاً، وزين على حداثة سنه، إلا أنه يحمل أوسمة بطولة شاقة، انتصر في معاركها على السرطان، بعد 5 سنوات من النزال البطولي معه.