مجلة البعث الأسبوعية

د.فايز الداية.. مواهب شعرية حقيقية تضيع وسط الزحام

البعث الأسبوعية- أمينة عباس

لم يكن حصوله عام 2022 على جائزة الدولة التقديرية في مجال النقد والدراسات والترجمة إلا تتوجاً لنتاجه المتنوع في اللغة وعلومها، وفي الأدب وفنونه، ولأنها جائزة الوطن كما وصفها فقد أكد في حوارنا معه أن هذه الجائزة كان لها الأثر الكبير في أن يثابر على مشروعاته العلمية والفنية لتكون صفحات تغني الواقع وتفتح نوافذ للمستقبل وتؤكّد أن سورية الوطن العظيم ستظل منارة للحضارة رغم السنوات الصعبة التي حلَّت بنا، معلناً لنا أن عملاً معجمياً لديه اليوم يسعى إلى إنجازه بعد سنوات من العمل، بالوقت الذي يتابع فيه مشروع تطوير فن خيال الظل الذي بدأه في العام 2019 إلى جانب مهامه كرئيس تحرير  لمجلة المعرفة العريقة.

**توليتَ رئاسة تحرير مجلة “المعرفة” خلفاً للراحل ناظم مهنا، فما هي أبرز التحديات التي تواجهك اليوم في إدارة هذه المجلة المهمة؟

مجلة “المعرفة” واحدة من ثلاث دوريات عربية لم تتوقف منذ صدورها، وتنتشر في الوطن العربي كله وهي مجلة “الهلال” في القاهرة 1892 ومجلة “العربي” في الكويت 1958 ومجلة “المعرفة” في دمشق 1962و”المعرفة” تعطي إضافة إلى الرصيد المعرفي والفني قيمة الاستمرار وترسيخ مشروعاتنا الثقافية العربية، فقد برزت في العواصم العربية مجلات فيها الكثير من التميّز، لكنها كانت تنطفئ تباعاً وتتلاشى الأفكار والرؤى في التفاعل المعاصر مع العالم، وهكذا نجد أن التحدّي هو أن نوسّع دائرة قرّائنا في الوطن العربي والعالم مادامت نوافذ شبكة المعلومات العنكبوتية انداحت في كل مكان، ويتمّ هذا بثلاثة شروط هي الجدية والموضوعية في التناول و اﻻهتمام بالمعاصر من القضايا من غير انقطاع عن الجذور والقدرة على التوصيل عبر أساليب الكتابة ومنهجها، وهي أمور مركّبة أعمل مع الزملاء في المجلة على تنسيقها وبلورتها ضمن الإمكانات المتاحة.

**كانت مجلة “المعرفة” ومازالت إحدى أهم أعمدة الثقافة السورية، فأي خصوصية تتمتع بها؟ وكيف تفسر استمرار ألقها حتى الآن؟

خصوصية مجلة “المعرفة” تقوم على أنها تحمل رسالة ثقافية واسعة اﻷطياف، فهي لا تخصص الحديث في جانب أو جوانب محدودة، بل تشرع الأبواب على الفكر والأدب والفن والعلوم مع مثاقفة العالم، وهذا الامتياز نراه في موقع الإعداد والتنفيذ صعباً سلّمه، فلا بدّ من التوازن في أقسام المعرفة وفي عرضها للقارئ العام والمتخصص، والمطلوب تنوّع وقدرة على الجذب والتوصيل.. وكما يقوم الكيميائي بإعداد موادّه بنسب دقيقة أحاول أن يكون كل عدد فيه ذلك التنوّع، وأسعى إلى إغناء الجوانب الضعيفة في ثقافتنا العربية كما في الموسيقا والتشكيل لأننا إذا غادرنا دائرة المختصين من فنانين ومدرسين فلن نجد الوعي الفني ولا القدرة على التذوق، ولنأخذ مثالاً: ملايين الصور عبر الجوالات لم تقدّم ما يغني الإحساس الفني، وفي أفق الموسيقا والغناء هناك إنفاق هائل وكم كبير جداً من المعروض في كل وسائل الإرسال والتداول، وغالبه لا يغني النفس ولا يرتقي بها، وكذلك لا يُستخدم الجانب الإيجابي في الوسائل الحديثة.

**مرت المجلة بمراحل عديدة، فما هي المرحلة الذهبية التي عاشتها برأيك؟ وكيف تصف المرحلة الحالية لها؟

قدّمت “المعرفة” في العقود الماضية مواد أغنت الساحة الثقافية، وتواصلت مع جمهور متنوِّع، والشكر لكل من عمل على استمرار صدورها، فهذا يمثّل قيمة هامة، وبحسب عوامل متعددة كان يتفاوت العطاء، ولاشكّ أن “المعرفة” نالت مكانة رفيعة عند انطلاقها بتآزر الأدباء والمفكّرين والفنانين في دمشق، وسرعان ما توالت إسهامات من العواصم العربية، ولا ننسى أن المشروع العربي في الستينيات من القرن العشرين كان صاعداً ويرسم أحلاماً ويسعى إلى تحقيقها، ونحن في “المعرفة” نسعى إلى التميّز المفيد وتأكيد الأواصر مع الكتّاب والأدباء العرب ومحاورة القرّاء في أرجاء وطننا العربي الذي لا بدّ أن يدافع عن وحدته وقدراته الحضارية التي تعرّضَت إلى حرب ثقافية لتفكيك عراها، والانسياق وراء عولمة شرسة ومتغوّلة تزداد مع تطور التقنيات المعاصرة.

**دراستك في جامعة القاهرة كانت محطة مهمة في حياتك كما ورد في معظم حواراتك، فما هي ثمار هذه المحطة؟ وما أبرز ما تعلمتَه من أساتذتك الكبار فيها؟

كنت ما بين العامين 1972 و1978 أتابع دراساتي في الماجستير والدكتوراه في جامعتين، الأولى هي الصرح الأكاديمي العريق جامعة القاهرة، وهي أول جامعة عربية في العصر الحديث، والثانية هي القاهرة العاصمة العالمية بكل الغنى في مؤسساتها وفي العلاقات في العالم وفنونه، وهذا ما جعل دراساتي تتبلور جديدة في علم الدلالة وعلم الأسلوب والمسرح، وهي مبنية على الكتب ومتابعة الأنشطة المتنوعة في المسرح والسينما وصالات تشكيلية ومتاحف وقاعات الموسيقا والاستفادة من الحوار بين العلم والفن في كل ذلك، وكانت كلية الآداب في جامعة القاهرة إبان دراستي فيها تضمّ عدة أجيال من الأساتذة، أبرزهم من الرعيل القديم د.عبد العزيز اﻷهواني ود.شكري عياد ود.عبد الحميد يونس ود.سهير القلماوي ود.حسين نصَّار، ومن المخضرمين تلاميذهم د.عبد المحسن طه بدر ود.عبد المنعم تليمة ود.أحمد مرسي، وكان هناك زميل معيد متميّز بدأ قبلنا بسنوات هو د.جابر عصفور، وأما ما ترسَّخ علمياً في صحبة هؤلاء فهو المنهجية وتقديم الجديد، وقد اشترطوا عليّ عندما سجلت موضوع الدلالة في الدكتوراه أن أعود إلى مراجع أصلية باللغة الأجنبية، فهذا مجال جديد، وعملت بالشرط وانفتحت أمامي الآفاق، وكذلك السلوك الأكاديمي الحضاري القائم على الاحترام والحوار بين الأجيال، وسيادة القيمة العلمية الموضوعية.

**مسيرة غنية واهتمامات متنوعة، فما هي المحطات الأبرز التي ساهمت في بلورة مشروعك العلمي والثقافي؟

قدَّمتُ عبر الكتابة والتدريس في حلب واللاذقية ودمشق وصنعاء والكويت فروعاً علمية جديدة ومصطلحات في تركيب مثاقف للمعرفة المعاصرة في العالم وللجذور العلمية العربية في عدد من المؤلفات التأسيسية، فقد أرسيت معالم علم الدلالة الحديث منهجياً لأول مرّة في الدراسات الجامعية والعلمية العربية بدءاً برسالة الدكتوراة “الجوانب الدلالية في نقد الشعر في القرن الرابع الهجري” وقد طُبعت بدمشق عام 1978 واكتمالاً بكتابي “علم الدلالة العربي/النظرية والتطبيق” عام 1985 وبعد ذلك انداحت الدراسات الدلالية العربية في الرسائل والكتب، وبعد رحلة طويلة للبحث والتطبيق جاء كتابي”اﻷسلوبية الدلالية/النظرية والتطبيق” عام 2016 وكذلك افتتحت مساراً لتطوير البلاغة العربية بإعادتها إلى الكيان النقدي المتكامل وفي إطار منهجي لعلم الأسلوب في كتابي”جماليات الأسلوب/التركيب اللغوي” عام  1981 ثم في “جماليات الأسلوب/الصورة الفنية في الأدب العربي” عام 1990.

**تنقلتَ دارساً وباحثاً وناقداً بين الشعر القديم والمعاصر والحديث،فما هي النتيجة التي خلصت لها؟ وهل تتفق مع من يقول اليوم:لقد كثر الشعراء وقل الشعر؟

في كل الأزمنة هناك من يُؤتى المقدرة على انتظام الكلمات في نغمات موزونة، فيطلق أبياتاً، وهنا قد تكون بسيطة لطيفة في علاقات اجتماعية أو بين الأصحاب، وقد تكون في مناسبات، وقد تكون من الخارج على شكل قصائد وهي تقلّد قصائد لشعراء من القديم أو الحديث، ولكنها لا يمكن أن تؤدي وظيفة الشعر، ولا أن تمثل شاعراً لأن الشاعر المبدع يعني طاقة جمالية عالية ووعياً بالعالم ودوراً في الراهن من ألوان الحياة، وقدرة على التأثير بما يجعل الجمهور المتلقي يحمل الرسالة في أحاسيسه، يكتسب منها وتغدو من مقومات الحياة التي يحياها، لذلك فالشعراء قلائل في الصف الأول ولا يمكن أن يكونوا عشرات، لكننا في الزمن القريب لا نبذل ما ينبغي من جهد نقدي وتقدير اجتماعي ورعاية من إدارات لأن مواهب حقيقية مؤهلة لتقدم الشعر تضيع في الزحام.

**كرئيس سابق لقسم اللغة العربية في جامعة حلب وجامعة صنعاء، ما هي الأخطاء التي يرتكبها عادة  طلاب هذا القسم برأيك؟ ولماذا؟

لا شكّ أن المستوى المعرفي والإتقان لدى طلاب أقسام اللغة العربية في الوطن العربي، ولا أستثني موقعاً، يتراجعان منذ سنوات، لكنها ليست مسألة تتعلق بالطلبة، فهم نتاج البيئة ودرجة ثقافتها وقدرتها على الرعاية العلمية، وكذلك هم بين أيدي هيئة تدريسية ومناهج وأنظمة إدارية.. كل هذا ينبغي أن نعيد النظر فيه لنصل إلى مستويات إدراك عالية ومهارة في العمل، سواء في اللغة العربية أو في جوانب العلم الأخرى، والجانب التربوي يتقدّم المشهد اليوم مع ضرورة إحكام التعامل مع الذكاء الصناعي.

**كيف تفسر إقبال الجيل الحالي ومن كلا الجنسين على تقديم أعمالٍ أدبية؟ وما مساحة الإبداع فيما يقدّم برأيك؟

إقبال الشباب والشابات على الفنون والأنواع الأدبية أمر جيد من حيث المبدأ، إلا أننا أمام حشود تأتي إلى ساحة براقة في نظرهم بلا أدوات ولا رصيد، أقصد اللغة والحصاد المعرفي وشيئاً من الوعي، فهنا ليست المسألة ممارسة حرفة بتعلم بعض الحركات وكيف لمن يدخل حقل الزيتون وهو لا يملك سلماً ولا يستطيع التسلق وليس بيده إلا عصا بالغة القصر.. كيف يجني المحصول؟ وهنا لا يخلو الأمر من أن بعضهم يتطاول ليمسك أقرب الأغصان ويشده فيكسره.

**كانت القراءة بالنسبة لجيلك والأجيال التي سبقتك المفتاح الأساس لأي مبدع، فما هو  الأساس الذي يعتمد عليه اليوم الجيل الحالي؟

كانت القراءة على امتداد مئة عام وسيلة تحصيل المعرفة والوعي بالعالم، وكانت أداة مكتنزة وآمنة إلى حد كبير، فالكتاب يمر بمراحل في دُور النشر والإدارات في كل البلاد، وتغربل الأعمال وكذلك الصحافة، بل والإذاعات، وقبل القراءة كانت البيئة التعليمية والبيتية تشير إلى مَواطن الخطر وتنصح بالروية والانتباه فيما يقرأه الشباب، أما اليوم فالمنافذ كثيرة والصورة غالبة والمواد التي تُعرض فيها سموم تخالط تركيباتها اللامعة وذات الروائح الجاذبة..وهكذا حلّت الصور على عشوائيتها والصفحات بلا غطاء، والعيون تكاد تعشى ولا تحسن العبور في المسالك.

**إلى جانب العلم كانت لك اهتمامات في المسرح والسينما والتلفزة والإذاعة، فهل كانت هذه الاهتمامات استراحة المحارب بالنسبة لك؟

اقترن عملي المهني الجامعي تدريساً وتأليفاً وبحوثاً بالجانب العلمي للّغة والنقد بما يتضمنه من الأسلوب والبلاغة، وفي جانب الفنون حيث الهواية المنظمة والمنهجية تم تحصيلي المعرفي في الكتب والمجلات ومع الفعاليات والأنشطة في المسارح ودور السينما والمعارض وقاعات الموسيقا وفي تسجيلاتها، ويمتاز هذا الجانب بمتعة تحصيل جمالية وقيمة معرفية توظف في الجانب العلمي للدلالة والأسلوب والنقد، فلم تكن الفنون استراحة بل هي مجال حيوي وجزء من الرسالة، وأعمل اليوم على استكمال مشروع تطوير فن خيال الظل الذي بدأتُه منذ العام 2019 فقد نقلت هذا الفن من الارتجال في الأداء إلى الصيغة الأدبية في نص مسرحي بخصائص عرض على شاشة خيال الظل، وأعدت لهذا الفن وجهه العربي بشخصيات معاصرة بأسمائها وفاعليتها في الحياة وقضاياها، وشكلت عروضاً بتقنيات للصوت والضوء وعدد من الممثلين، وتلحين الأغنيات الدرامية في نسيج العرض بالتعاون مع المخرج المسرحي جمال خلو، وقدَّمنا:”عودة مصباح وأبو اللوز إلى خيال الظل” في المسرح القومي بحلب ودمشق عام 2019 و”الكنز والأصدقاء” في المسرح القومي بحلب عام 2021 ثم قدمتُ عروضاً مع دورة خيال الظل التدريبية للشباب بحلب عام 2022 والورشة المتقدمة عام 2023 وأعدّ حالياً عروضاً لمسرح خيال الظل بنصوص للكبار، وهذه خطوة جديدة لتوظيف هذا الفن.

د.فايز الداية

مواليد دمشق – دوما- 1947، تلقى علومه في دمشق، وتخرج في جامعتها حاملاً الإجازة في اللغة العربية، ثم نال الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة 1978، درّس في جامعات حلب وتشرين وصنعاء والكويت، أستاذ النقد والبلاغة وعلم الدلالة في جامعة حلب – كلية الآداب-1971- 2022، وهو كاتب درامي له مجموعة من الأعمال التمثيلية في الإذاعة السورية “دمشق و حلب” وإذاعة صنعاء، رئيس سابق لقسم اللغة العربية بجامعة حلب وجامعة صنعاء 1989 – 1990، نشر مؤلفات عدة في اللغة والنقد والأسلوب والمصطلح العلمي.