مجلة البعث الأسبوعية

ذاكرتنا المستقبلية

سلوى عباس

التراث الشفوي هو التراث غير المادي الذي يُقصد به “المعتقدات والأساطير وأشكال التعبير اللفظي والمعارف والمهارات” التي تعتبرها الجماعة والأفراد جزءاً من تراثها الثقافي، وهذا التراث الثقافي غير المادي تتوارثه الأجيال جيلاً بعد آخر، معتمدة على الذاكرة التي تقوم بتلك العملية، هذه الذاكرة التي اعتبرها بول ريكور أنها تشكل المادة الخام لعلم التاريخ، فالذاكرة الشفاهية من أول الذاكرات التي حفظت لنا ذلك الماضي، حيث كانت الشعوب التي لم تدون تاريخها بالكتابة، تحفظ ثقافتها في أشعار وحِكم وأمثال وأساطير، ونتيجة لقوة التذكر لدى تلك الشعوب فقد شهد لها العالم بالحكمة، وقد ذكر المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجيا أن الشعوب التي لا تعرف الكتابة تحفظ أكثر من تلك التي تعرفها، إذ كان شعراء اليونان الملحميون الذين سبقوا هوميروس، يلقون كامل قصائدهم اعتماداً على الحفظ والذاكرة، وربما كان ذلك هو أصل الإلياذة والأوديسة، وهكذا استعاضت الأمم القديمة عن التدوين بالذاكرة عن طريق تمثيل الصور في الذهن لاسترجاعها عند التذكر، لتصبح الذاكرة أمراً حيويا مهماً في عالم تندر فيه القراءة والكتابة.

وقد عُد التاريخ الشفوي مكملاً للتاريخ المكتوب بما يحمله من تصحيحات مباشرة لأحداث تحتاج إلى مصداقية في روايتها، وبما يفسح المجال لاستكمال الرؤية المعرفية التاريخية من خلال ما يضيفه من شهادات مهملة أو منسية، وعبر توسيعه لحقول البحث التاريخي، ليشمل طبقات اجتماعية مختلفة ومواضيع كانت تطرح فقط في أطر العلوم الأخرى، وبالمقابل لابد للتاريخ الشفوي من التأكّد من أن رواية الشاهد أو المشارك في الحدث الذي يروي أحداثه، قد نُقلت بأمانة أو أنه لم يخطئ في بعض النقاط أو الملاحظات، ومن هنا تأتي أهمية التاريخ الشفوي بتكامله مع التاريخ النصي.

هنا أشير إلى برنامج “حكايات وأغاني ع البال” الذي أطلقه الشاعر الراحل سعدو الديب عام 2004 والذي يوثق فيه للأغنية الشعبية السورية في محافظات القطر كلها، عبر العودة إلى الأصول والتراث، فيروي لنا حكاية كل أغنية واللون الذي تؤدى فيه ضمن عناوين عديدة (كالدلعونا والميجنا واللالا والموليا، وكذلك العتابا والموشح والقد)، كما يرصد أنواع الدبكات الشعبية وأغانيها في سورية، وكان هذا البرنامج الخطوة الأولى في مشروع تراثي كبير انطلقت فكرته من ضرورة الحفاظ على التراث من الضياع وأهمية توثيقه، هذا المشروع الذي اشتغل عليه الراحل الديب ليعيد تشكيل السنين، حيث تتألق الذاكرة بعبق التراث ويضج المكان بذكريات الأمس التي غيبتها زحمة الحياة وتراكماتها وكادت تذهب طي النسيان، فحاول عبر مشروعه هذا أن يمسح عن هذه الجواهر غبارها ويعيد لها لمعانها، لنسترجعها في وجداننا أنشودة من تراثنا المشرق بألوانه الغنائية التي تعطي صورة عن تراث كل محافظة سورية بما تتضمنه من قيم جمالية خاصة وأن تراثنا شفاهي ويحتاج إلى توثيق، وكان الاعتماد الأكبر في هذا المجال على المسنين كشاهدين أساسيين على التراث، وعدد من الباحثين والأكاديميين الذين تتوفر لديهم معلومات تراثية، فقد ذهب الكثير من تراثنا ولكن بقي الأفضل.

الآن ومنذ عام 2017 بدأت مؤسسة “وثيقة وطن” بمشروع توثيق سير الحياة السورية بالتوثيق مع د.عفيف البهنسي، حيث انطلقت المؤسسة في مشروعها من فكرة نشر الوعي بأهمية المشاركة في كتابة التاريخ، وتهيئة الحاضنة الفكرية والعلمية لتسجيل قصص الذاكرة ورواية قصص الأعلام وتجاربهم وخبراتهم حيث تتعاقب الأجيال جيلاً بعد آخر، وكل سلف يرحل يوّرث ثقافته التي ورثها من جيلٍ قبله إلى جيل بعده، فنحن ورثنا عن جيلنا هذه الثقافة التي نتعايش من خلالها مع محيطنا الاجتماعي فنؤثر فيه ونتأثر بقدر فعاليتنا والأدوات التي نمتلكها.

الهدف من المشروع كما أورده القائمون عليه في المؤسسة يكمن في “حفظ وتسجيل ذاكرة الأعلام والقامات السورية الذين لهم دور هام في شتى المجالات، والذين يحفظون تاريخاً كاملاً غير مدون وغير معروف بالنسبة لمعظم السورين، والحفاظ على كنوز من التجارب والخبرات والمعارف لم يصل إليها أصحابها إلا بعد عمل وجهد وتعب ومعاناة، هذه الخبرات التي تشكل دروساً وعبراً تنهل منها الأجيال، وهذا بدوره يشكل تكريماً للأعلام الذين أسهموا في تطوير وتفعيل ثقافة الوطن من خلال تسجيل تاريخهم بلسانهم، فالحفاظ على مذكرات الأعلام هو إنقاذ لجزء عزيز من تاريخنا من الضياع والهدر، ومراكمة حضارية للمعارف والخبرات، وتنفيذ لواجب وطني تجاه الأعلام والوطن”، وهذا ما تؤكد عليه رئيسة مجلس أمناء المؤسسة د. بثينة شعبان دائماً على “أهمية حفظ الذاكرة الحية في كافة المجالات، ونقلها إلى الأجيال، وإشارتها إلى توثيق التاريخ المعاصر لسورية في مجالات متعددة منها الحرف اليدوية والمونة، إضافة إلى توثيق آثار الحرب على سورية وتسجيل شهادات الناس التي عانت من هذه الحرب وشهدت أحداثها، لتكون وثيقة بين أيدي الباحثين ولتطلع عليها الأجيال القادمة”.