“أحبها”.. حكواتي أم مسرح مونودراما؟
أصف إبراهيم
كان المسرح في بداياته، التي جاءت عقب الإرهاصات الأولى التي مهدت لها الاحتفالات الدينية بـ “الإله” ديونسيوس إله الاخضرار وملهم طقوس الابتهاج عند الإغريق، يعتمد على ممثل واحد فقط غالباً ما كان هو نفسه مؤلف النص مثلما فعل ثيسبس في عروضه، والذي يرجع إليه الفضل في إدخال الممثل الأول أو الأوحد إلى العرض المسرحي. وكان يقوم بكل الأدوار معتمداً في ذلك على ارتداء أقنعة صنعت خصيصاً من الكتان، ثم جاء أسخيلوس بعد ذلك وأدخل الممثل الثاني وأصبح هناك ممثلان يؤديان الأدوار ويتبادلان الحوار مع الجوقة، وتبعه سوفوكليس الذي زاد عدد الممثلين إلى ثلاثة، وبذلك نشأ فن المسرح الذي يلقب بـ “أبي الفنون”.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأ مفهوم التجريب المسرحي في الظهور على خشبات المسارح في العالم أجمع، كحركة تهدف بشكل أساسي للبحث ومحاولة إيجاد أشكال عرض وكتابة مسرحية مختلفة عن جميع القواعد المسرحية السائدة.
فهل نستطيع أن نسمي ما قدمه المسرحي القدير فرحان بلبل ككاتب ومشرف مع المسرحي عبد الكريم عمرين معد ومؤدي في القاعة الأثرية بكاتدرائية الروح القدس في حمص الاثنين الفائت، وضمن منطق التجريب، هو عمل مسرحي، ويحقق شروط المسرح بعناصره المتعددة؟.
بدأ عمرين عرضه الذي يحمل عنوان “أحبها” وصنفه ضمن بدعة تجريبية جديدة هي “مسرح على الطاولة” بمقدمة يقول فيها “عرض عار دون ديكور أو موسيقا واكسسوارات الغاية منه إحياء اللغة بما تنتجه من معاني وخيال داخلي، يأتي كرد فعل على سرقة الصورة والميديا والذكاء الاصطناعي للمسرح تلك التكنولوجيا التي تقتل الحميمية بين الخشبة والمتفرج، هي محاولة لإحياء المتلقي من خلال القص والروي..”
لكن هل حقاً ما شاهدناها في أقل من ساعة هو مسرح يسهم في إحياء المتلقي، أم تجربة محاكاة للحكواتي على الطاولة لا أكثر..؟
يمكننا القول أن عرض “أحبها” الذي وضعه عمرين ضمن مسرح المونودراما لم يحقق أي شرط من شروط العرض المونودرامي المتعارف عليه الذي يعتمد على التداعيات والمونولوج الداخلي وحوار الشخصية الواحدة من خلال هواجس وأفكار ذاتية، أو دمى أو غيرها من اكسسوارات وعناصر مساعدة، وهذا لم يتحقق في أداء عمرين لنص” أحبها”، حيث اقتصر أدائه على سرد حكايته بأسلوب “الحكواتي” الراوي من نص مكتوب أمامه على الورق، وهو جالس على كرسي خلف طاولة، وأمامه جمهور من المستمعين يتفاعلون معه، ويقاطعونه أحيانا، أو يتبادل معهم أطراف الحديث أحياناً أخرى، حاول أن يلون في الصوت لكسر رتابة السرد وإيجاد بعض التشويق ، وهو أسلوب لجأ إليه حكواتي المقاهي الذي كان يعتمد على مهارته في تغيير نبرة صوته لتناسب كل شخصية من شخوص حكايته لخلق حالة من التشويق والحماسة لدى المستمعين..
بدأ عرض أحبها وفق فنية الاسترجاع في سرد القصة التي تدور حول رجل متقاعد يعيش وحيداً معزولاً ضمن غرفة صغيرة، يحاول الاتصال بولده كامل لتزويده بالطعام الذي يفتقده في ظل اضطرابات أمنية تحيط به، لكن الاتصال ينقطع ليبدأ هنا بالعودة إلى بداياته كيف تخرج في الجامعة اختصاص تجارة وتعين بوظيفة إدارية في معمل تعرف فيه على فتاة جميلة مهووسة بالسياسة وبالقضية الفلسطينية، تزوجها لكنه لم يستطع مجاراتها في هوسها السياسي فاضطر إلى مغادرة المنزل وشراء غرفة صغيرة قرب المعمل.
يغرق جمال في لعبة الفساد و الفواتير الوهمية بعد ارتقائه في المناصب الأمر الذي يبعده عن مها وابنه كامل أكثر فأكثر لدرجة القطيعة الكاملة فيصاب بجلطة قلبية بعد أن يعلم أن التحقيق في قضايا الفساد سوف تطاله .
ما أطلق عليه بلبل مسرح على الطاولة يمكن أن نسميه، وفق ما شاهدنا، حكواتي على كرسي لا أكثر المؤدي كان يقرأ من نص أمامه على الورق، وليس نصاً محفوظاً ومرتجلاً فكان مطلوباً منه قراءة النص وأداء دور الشخصيات في الوقت ذاته الأمر الذي أربك المؤدي وشتت انفعالاته وتركيزه، وما أدخله بلبل على المشهد من عناصر مساعدة ومعبرة عن حالة نفسية وانفعالية محددة، كإشعال سيجارة، أو شرب كأس نبيذ لم يضف شيئاً ذا قيمة درامية على العرض لأنه لم يوظفها توظيفاً خلاقاً.
في النص أفكار ورموز خلاقة يمكن لها أن تحيلنا إلى عرض مسرحي احترافي متقن وعميق لو تحقق له مسرحة متكاملة ضمن شروط المسرح الواقعي الذي يتحقق فيه شرطي الفائدة والإمتاع، وليس كما قدم .
يقوم النص على ركيزة أساسية هي رمزية الوطن الضحية، والفاسدين الجلادين، هناك مها الموظفة المجّدة والأم المحبة المعطاءة التي غامرت بحياتها لإيصال الطعام إلى زوجها جمال رغم الظروف الأمنية، وهناك جمال الباحث عن ملذاته وإشباع غرائزه هما وجهين متناقضين في وطن واحد، مها رمز لوطن مغتصب ليس فقط، فلسطين وحدها بل أي بلد عربي غارق في الفساد والظلم الاجتماعي والفوضى. وجمال رمز لإنسان ل ايستحق حب ودفء وخير هذا الوطن.
المسرحية برعاية مطرانية السريان الكاثوليك ومسرح على الطاولة.