“ستيفن دوبنز” يقدّم حصيلة 35 عاماً من الدّراسة في “أفضل معان..”
نجوى صليبه
نجتزئ ونختصر بعض ما كتبه الشّاعر والرّوائي الأمريكي “ستيفن دوبنز” في تمهيده لكتابه “أفضل معان في أفضل ترتيب ـ مقالات في الشّعر”: “يعتقد بعض النّقاد أنّ الكاتب لا يتدخّل في العوامل التي تحدد العمل الأدبي، ويرى آخرون أنّ العمل الأدبي محكوم بنيّة الكاتب، بينما يذهب غيرهم إلى أنّ تجربة الكاتب وتعليمه وثقافته وتحيّزاته السّياسة لا تتحكّم فقط بالكتابة فحسب، بل بالأفكار والدّوافع، ويعتقد النّقّاد الذين يؤيّدون عبارة “الكلمة الأولى هي أفضل كلمة” أنّ العمل يأتي من مكان آخر، مثل اللاوعي أو الآلهة الملهمة أو الأثير، وبين هذين الجانبين كتّاب لهم شغف بالمراجعة ويؤمنون بنيّة المؤلّف، لكنّهم يعتقدون أنّ عملهم يتأثّر بثقافتهم وتعليمهم وتحيّزاتهم، موضّحاً: “العمل الأدبي هو شيء صنعه الكاتب، والهدف منه إثارة مشاعر القارئ، يضاف إلى ذلك ملحوظة الشّاعر وليم كارلوس وليمز “إذا لم تكن القصيد مكتوبة من أجل المتعة فلن تكون قصيدةً على الإطلاق”.
ويبدي “دوبنز” – في كتابه الذي ترجمه الدّكتور باسل مسالمة والصّادر عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب 2023 – رأيه في القصيدة أو يعرّفها، فيقول: “أعتقد أنّ القصيدة ضجيج، وأنّ هذا الضّجيج اتّخذ شكلاً، فصار قصيدة، ليست القصيدة كلاماً عادياً، بل إنّها كلام مصطنع، كما أعتقد أنّ القصيدة لا تحاول أن تقدّم الواقع، بل إنّها تقدّم استعارةً تمثّل جانباً ما من علاقة الكاتب بالعالم، إنّها استعارة من المحتمل أن تعاد تجربتها، لتصبح ذات مغزى للقارئ”، مبيّناً: “بدأت المقالات الآتية في شكل محاضرات تحدّثت عن حرفة، وأعطيت في الغالب في برنامج الماجستير في الفنون الجميلة في كلية “وارن ويلسون” في “أشفيل”، في ولاية “نورث كالورينا”، وفي هذا الوقت ألقيت المحاضرات كلّها في ستة أماكن، وأقدم هذه المقالات يعود إلى صيف 1979، وأحدثها محاضرة عن نبرة الصّوت وتعود إلى خريف 1993، ولدى مراجعتها مرّة أخرى لضمّها في هذا الكتاب، حاولت ربطها بجمالية آلية عمل الشّعر وتحليله”، مضيفاً: “أرى أنّ المقالات الآتية مكتوبة للكتّاب وطلّاب الكتابة والقرّاء الذين يبحثون عن تقدير أكبر للكتابة، وتتناول أربع مقالات كتّاباً محددين: راينر ماراي ريلكه، و أوسيب ماندلشتام وأنطون تشيخوف و يانيس ريتسوس”، ومبيّناً: “لست منظّراً ولا أكاديمياً، وأنا ممتن لهذه الحقيقة، لكن الأفكار المطروحة هنا هي حصيلة أكثر من خمسة وثلاثين عاماً من الدّراسة تقبع تحت شعري ونثري.
وينوّه “دوبنز” بإيمانه بنيّة المؤلّف وبكونه إنساناً يؤمن بالتّواصل وبفهم الجمال وبأنّ الأدب يمكن أن يكون امتداداً للتّجربة الأخلاقية وأنّ الأدب يثري حياته وبأنّه يقدّر كثيراً ما تنتجه ثقافتنا التي لا تتمتع بالكمال، مبيناً أنّ الهوّة بين معتقدات كثير من النّقاد وكثير من الكتّاب تبدو أعمق من هذا.
ويعنون “دوبنز” الفصل الثّاني من كتابه بـ “الاستعارة وتوثيق الذّاكرة” ويناقش فيه الطّرق التي تعزز فيها القصيدة علاقتها مع القارئ، يقول: “إحدى هذه الطّرق استخدام الاستعارة، التي أُدرج تحتها التّشبيه والممائلة والرّمز، وهي بوجه عام أشكال من المقارنة موجودة من أجل رفع مكانة الشّيء الذي نقارنه، وثمّة طريقة أخرى وهي توثيق عمل الذّاكرة الذي يعني أنّ على القارئ أن يكون قادراً على تعرّف عوالم القصيدة والاستجابة له أيضاً عبر خياله أو تجربته الشّخصية، الأمر الذي يتطلّب مزيداً من الوضوح فيما يتعلّق بالسّياقات المادّية والعاطفية والفكرية التي يجدها في القصيدة”.
ويفرد المؤلّف فصلاً للحديث عن الشّعر الحرّ، ويقول في الجزء الثّالث منه: “كان ينظر إلى الشّعر الحرّ في كثير من الأحيان منذ ظهوره الأوّل في فرنسا عام 1886 وخلال معظم القرن العشرين، على أنّه شكل يقع في منتصف المسافة بين الشّعر الموزون والنّثر، وكان قادراً على الانغماس في أيّ منهما، لكنّه كان أقلّ شأناً من كليهما، وكان في الغالب يعرّف على نحو سلبي، على أنّه ليس نثراً أو شعراً وأنّ له أبياتاً ذات أطوال غير منتظمة وأنّه بلا قافية”، مستشهداً هنا بما قاله “تشارلز هارتمان” في كتابه “الشّعر الحرّ”: “إنّ عروض الشّعر الحرّ هو تنظيم إيقاعي بأنماط غير الأنماط العددية”، موضّحاً بعض خصائص بالقول: “يرفض الشّعر الحرّ النّظام القديم لمكافأة التّوقّع والتّحقق لنظام التّوقع والمفاجأة، وتختلف بالتّأكيد درجة المفاجأة في كلّ قصيدة من الشّعر الحرّ، لكن غالباً بسبب ما تكون هناك محاولة لإحباط توقّع القارئ، والجانب الثّاني المهمّ في هذا الشّعر هو أنّه من خلال أسلوبه اللغوي وبنائه للجملة غالباً ما يهدف إلى أن يكون واقعياً، وعلى الرّغم من أنّ الشّعر الحر خطاب مصطنع بوضوح فإنه يحاول التقاط الواقعية والعفوية الظّاهرة للكلام الطّبيعي”.
وهنا يقترح “دوبنز” تقسيم الصّفات اللغوية التي يتألّف منها شكل القصيدة إلى أربع فئات هي: العلاقة بين المقاطع المشددة وغير المشددة، والصفات السّمعية للغة والنبر، وسرعة تقدّم القارئ في القصيدة وهو ما يقف عنده ويعدّه الموضوع المباشر، يقول: “يمكن تعريف هذه السّرعة بأنّها اختلافات مسيطر عليها في قوّة دفع القصيدة نحو الأمام، تتأثّر سرعة تقدّم القارئ بالقصيدة بتوقّع القارئ ورغبته في المعرفة وكذلك بالحركة الأمامية الطّبيعية للجملة الإنكليزية وسرعة تدفّق المعلومات من القصيدة إلى القارئ، في كلّ من الرّواية والشّعر يتلاعب الكاتب دائماً بما يعرفه القارئ مقابل ما لا يعرفه، مبيناً: “حين يجعل الكاتب القارئ يريد أن يعرف، يمكن له استخدام جهل القارئ على أنّه طاقة للتّحرّك إلى آخر الصّفحة، ونظراً لهذه الرّغبة في المعرفة يوازن الكاتب دائماً توقّعات القارئ مقابل إحباطه، فالأولى هي أنّ القارئ سيتعلم الإجابات والثّانية هي أنّه لن يفعل ذلك، ويتحكّم التّوتّو بسرعة تقدّم القارئ في القصيدة، والتّوتّر هو عبارة عن طاقة تأتي من اللغة وتوقّع القارئ، حتّى ثقة القارئ هي شكل من أشكال الطّاقة، وتشبه سرعة تقدم القارئ في القصيدة يداً ضغطت على ظهورنا ودفعتنا إلى الأمام، وعلى الرّغم من أنّه يجب أن يسمح لنا بالرّاحة أحياناً يجب أن تكون أماكن الرّاحة هذه من اختيار الكاتب”.
وفي “حركة المرور بين عالمين” يقول “دوبنز”: “إنّ العالم الذي نراه ونسمعه ونلمسه ونتذوّقه ونشمّه عالم نبصق فيه ونتنفس وتتحرك فيه أمعاؤنا، إنّه العالم الزّمني المحدود والقابل للقياس وهذا القياس نتلقّاه بحواسنا الخمس، لكن ثمّة عالم آخر نحاول قياسه بعواطفنا، وتمثّل إحدى وظائف الشّعر في رسم هذا العالم الآخر، يستكشف الشّعر عالم المشاعر تماماً مثل مستكشف يرسم معالم العالم المادّي، لكن لفعل ذلك يجب أن يفكّر الشّاعر في القصيدة ليس على أنّها وسيلة للتّعبير عن الذّات بل للتّعبير الجماعي، فهي ليست ملكية خاصّة بل ملكية عامّة، وإذا رأينا القصيدة من هذا المنطق فلن تكون خادمة الشّاعر أو ممتلكاته لتفعل ما يشاء، بل على العكس، يظهر الشّاعر أنّه هو خادم القصيدة”.