بلدة.. اسمها خبب!
حسن حميد
ها أنذا، أعود من خبب، البلدة الجميلة التي تضافف طريق دمشق – درعا، بالمحبة والعمران والأشجار والبساتين، بعد أن شاركت في ملتقاها الأدبي والفني الذي يُعقد في مثل هذه الأوقات.. سنوياً.
أعود من البلدة ممتلئاً بالفرح والسرور لأنني رأيت أهل البلدة جميعاً في هذا الملتقى. أهل البلدة بأجيالها كلّها، وبالحبور الذي يماشيهم في كلّ سلوك وقول وفعل. لقد رأيتهم وهم أشبه بالمرآة التي تريد أن تبدي جماليات البلدة، وعراقة تاريخها، ونبل أفعال أهلها الذين أنسنوا الحجارة والصخور، ومحو أمّية من لا يعرفون القراءة والكتابة منذ بدايات القرن العشرين المنصرم وبجهود جبارة، وعزائم عرفت وقدّرت معاني العلوم والآداب والفنون وأدوارها السّامية في الحياة، مثلما عرفت الطريق الأصوب والأقصر إلى سلالم الحضارة. الآلاف من أبناء البلدة هم حملة للشهادات العليا، وفي جميع الاختصاصات، والآلاف منهم هم أصحاب مشاريع مبتكرة، وأفكار بهّارة في غاياتها وما ترمي إليه من أجل أن تكون بلدتهم المثال والمنارة لكلّ ما هو جميل ومؤثر وبارق وباقٍ.
لا شي، في هذه البلدة، كغايةٍ.. يتقدّم العلوم والآداب والفنون والأخلاق والسلوك الآدمي والنبل، ولا شيء من رغائب الناس يتقدّم العمل، والإيمان بالقيم الإنسانية، والحرص على الخلاص والذكر الجميل.
ها هم، أهل البلدة، وفي هذا الملتقى الأدبي والفني، يبدون آية في التعاون، والتنسيق، والتناوب على توفير كلّ ما يُسهم في نجاح ملتقاهم. لقد تنادوا وخططوا وهمّوا وتوازعوا الأدوار فيما بينهم، صغاراً وكباراً، ذكوراً، وإناثاً، كيما يصير هذا الملتقى كتاباً مهمّاً يليق بتاريخ أجدادهم، وبجهودهم، وأفكارهم، وأحلامهم التي اجتهدوا كيما تكون تعبيراً عن المحبة والحضارة الرّاقية، وصورة جليلة لمفاعيل طلّاب العلوم والآداب والفنون.
أجل، لقد عشنا ساعاتٍ من البهجة وفّرتها لنا لوحاتُ التراث التي تتحدّث عن حقول القمح، وحقول عباد الشمس، وحواكير الورود، وحقول المحبة والأحلام، مثلما وفّرتها لنا القطعُ الموسيقيةُ الجميلةُ المصحوبة بالكلام المضيء التي أنشدتها فرقُ المدارس والأندية والمراكز التي ضمّت بين صفوفها أجيالاً عدّة.
ولعلّ المدهش، رأينا، هو الحضور العائلي المصاحب للأبناء والبنات، والقبول على تسجيل فعاليات الملتقى التي شاركوا فيها، وتصويرها لتكون سجلاً الذي يوثّق الخطوات الأولى للموهوبين منهم وهم يصعدون أدراج الإبداع في الفنون والآداب بالجسارة التامّة.
كلُ شيء في ملتقى بلدة خبب، في هذا الموسم، هو حيوي، وجميل، ويروم التفوّق، والتجاوز، والعلو، والحضور؛ فاللوحات المسرحية للكبار والصغار راحت تتبارى في تقديم وجوه الحياة، والتلبث عند ثنائية التعب والأمل من أجل الوصول إلى النجاح المحلوم، وكذلك بدت معارضُ الرسم التي زيّنت الجدران حريصة على التنافس الخلّاق ما بين طلاب وطالبات المدارس من أجل تمييز لوحة من لوحة، وتمييز موهبة من موهبة، أما الغناء الإفرادي فقد عرف حماسة ضافية بين الجميع، ومثلها شهد الإنشاد الجماعي منافسة نبيلة بين الفرق لما امتاز به من تلاوين غنية جمعت بين التراث الأصيل وحداثة المعاصرة.
لقد قدّم أبناء البلدة أجمل ما لديهم من مواهب أمام الجميع، ولا سيما الأدباء ضيوف الملتقى الذين جاؤوا من محافظات عدّة لينشدوا قصيدهم، ويسردوا قصصهم، مثلما قدّم الجمهور أجمل لوحات الإنصات والتفاعل مع النصوص الأدبية، فبدا الأدباء والحضور كما لو أنهم في قاعة من قاعات الاستماع إلى الموسيقى الخافتة.
بلى، أعودُ من خبب، هذه البلدة الجميلة، ومعاني السرور والدهشة والرضا تملأ قلبي، لأنه بات من النادر أن ترى تفاعلاً حيّاً ومؤثراً ما بين المبدع والجمهور، وما بين النص وما يود الوصول إليه من غايات الجمال والأحلام، بل بات من النادر أن ترى جمهوراً يعشق الإنصات كما لو أنه هو السحر الحلال!
أجل، إنه يوم للآداب والفنون لترى هي الأخرى صورتَها في مرايا أهل بلدة عشقوا المدارس والكتب والإبداع والرفعة، فجعلوا لها ملتقى سنوياً، يقدّمون فيه أجمل ما أنتجه التعب الجميل، تماماً مثلما جعلوا للكروم والورود والغلال الأخرى أياماً تدور حولها، وتطير بها الأحاديث الطيبة من العام إلى العام طلباً للمضايفة والارتقاء والجمال المرتجى.
Hasanhamid55@yahoo.com