قراءة في المجموعة الشعرية “أنفاس الياسمينة” لـ إبراهيم عباس ياسين
“أنفاس الياسمينة” مجموعة شعرية صادرة عن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب للشاعر إبراهيم ياسين عباس وهي تضمّ مجموعة قصائد منثورة، هي تلك الروح التي تنهض بالشعر عالياً ليعانق لروحه الحب وليكتب القصيدة لوحات سردية حية متحركة، يرسم فوق السطور بريشة رهفة الألوان ماتعة السرد بعيداً عن التكلف والتعقيد، فالعنوان يرسم بما في دواخله بفرادة المجاز وفرادة العتبة الأولى وجمالية اللوحات التعبيرية التي تمتزج فيها الشعرية التعبيرية بالمعنى الموجّه برقة التعبير الخفي والعلني، ولقد استطاع الشاعر باقتدار عجيب أن يمتلك أدوات شعرية ترسم الصورة التي تخلق الرؤية، وذلك بقفز اللغة فوق المستوى الكلاسيكي والانزياحات اللغوية، كما للقصيدة شعريتها كذلك للعنوان شعرية ثمة علاقة وطيدة بين القصيدة والعنوان.
“أنفاس الياسمينة” مشهد من الفلسفة والدلالة الشعرية النابضة بمفردات متنوعة، وعالم خاص بالشاعر، فجاءت النصوص النثرية كغيم يتهاطل شوقاً وحزناً ليقول في قصيدة بعنوان “اعتياد”:
ومازلت كعادتي
كلَّ صباح
أعدّ القهوة لاثنين وأنتظر مجيئك
فأرى وجهك مرسوماً
في فناجين قهوتي
ومسودات قصائدي
وألمح في ضوء ابتسامتك كرنفالات الأعياد
ومواكب النّجوم السّيّارة
فأميل عليك بقلبي
وتحتوي وجهك بأصابعي العشرة
أنقذ قباني مابين عينيك كالوشم
وأقول: أحبُّك.
نجد هنا أن الشاعر يأخذك إلى محراب الحب ناظراً إلى قبلة القلب، فاستطاع أن يأتي بمعانٍ متفردة مدهشة وجمالية في التعبير شفافة تعتمد على الوضوح والواقعية، فهي لغة تكاد تكون خاصة بالشاعر وبأدواته الفنية واستحضارها حالته النفسية من خلال هذه القصيدة. وفي قصيدة بعنوان “آخر الليل” يقول الشاعر:
موحشاً يهبط الليل على صدر المدينة المائلة..
مزدحماً بالأشباح ومثقلاً بالأصوات والقذائف
ومابين قذيفة وأخرى أتفقَّد أعضائي..
وأنت إلى جانبي تتنفّسين كوردة…
وترتعشين كسنبلة
خائفة أنت؟
من رصاصة تثقب قلب نافذة،
ومن دبابة تجثم على صدر زهرة.
هنا نجد الشاعر متأثراً بمحيطه المملوء بالحرب وأصوات القذائف، فبدت دلالات الحيرة تسكن خلجان الذات فالتأمل الباطن صيرورة الوهج لأن الذات تأبى الانكسار وتتأثر بالمحيط، فالصور البيانية والعاطفية تتجه نحو الانزياحات الدلالية المعنوية مما يحيط النص بفضاءات عاطفية وفلسفية تنسجم مع أرواح المعاني من حيث القلق والاضطراب وصور فنية ثرية الإيقاع تنفجر فيه طاقة اللغة وحصارات أخرى مع الآخر والذات، وهذا يوضح مدلولاً آخر لمستوى رؤية الشاعر والتدرج في التعبير من بنية إلى أخرى نحو تحول تدريجي ومنطقي يساعدنا على الفهم مع إيحاء الكلمات والعبارات لتطوير المعنى الشعري.
وفي قصيدة “أنفاس الياسمينة” يقول الشاعر:
كيف تستطيع أنفاسك
أيتّها الياسمينة
أن توقد الأغنيات المضيئة
في أقبية الليل الحالكات؟
وأن تحمل كُلَّ قوافل الأزهار
ورسائل الأطيار المتبادلة بيني وبينك؟
وكيف يمكن لقصيدة تكتبها أنفاسك…
هنا نجد كيف ذهب الشاعر إلى توظيف إمكانات اللغة وما تحويه من ترادفات وجناسات واستعارات واستخدام الصور الحيّة واعتماد مفردات استحدثت من صميم التجربة والجو العاطفي، كما فسحت الحركة الشعرية الجديدة أمام الشاعر مجال التعبير عن التجربة الحياتية، ومن تجليات التجديد في القصيدة الحديثة سبر أغوار خبايا النفس وما يعتريها من قلق روحي وتمزق سيكولوجي ومن خلال النص /أيتها الياسمينة/ أقول حين يمازج الحب الروح فحتماً هو يغسلنا من أتعاب الحياة ومشاقها وهمومها، وحين نجعل من الحب متوضأ يغسل عنه كل إدارات الحياة وأتعابها ويتأجج الشوق الصادق للمحبوبة لينبع من ثنايا الروح ومن أعماق النفس والقلب، أنها صوت الروح وأرض النفس وسماء القلب والشاعر بدا كالطفل المدلل تحت رعشات الشوق الذي لا ينتهي وهو يوضح مدلولاً آخر لمستوى رؤيته لعلاقة الحب بالزمن.
وفي قصيدة بعنوان “في غيابك” يقول الشاعر:
في غيابك تنطفئ المصابيح
وتنتحر الكواكب
يتراجع البحر عن اليابسة
والغيوم تلملم أثوابها
في حقائب الرياح
وترحل
وكُلُّ شيء.. كُلُّ شيء.. في غيابك
بارد كالموت.. وشاحب كالصدى
في غيابك تتوّحد الروح
كشجرة عارية
وحيدة ومهجورة
في صحاري الضياعة والغربة .
بمهارة مبدع يعرف الشاعر كيف يمرّر شعاراته بين خيوط النسيج الشعري وبين متعة التوظيف الذكي والسرد المدهش وفق إيقاعات اللحظة المضطربة في الزمان، فرسم الشاعر مشاعره بألوان الفجر وبوارق الحب رغم انغلاق الأفق في أقسى الأزمنة ونجد هناك حالة من الانهيار والاستسلام المبطنة من كل ما يلاقيه من وجع في دروب الحب فينتقل إلى المناجاة، ونجد هنا أن الشاعر اعتمد اللغة الإيحائية الشعرية فمزج بين الواقع والخيال، وقد انتهج فيضاً من الأسلوب الفريد لتحريك ألفاظ النص لتتراقص موسيقاه بعيداً عن الرتابة. وفي قصيدة بعنوان “تحت سقف هذه الحياة” يقول الشاعر:
تحت سقف هذه الحياة
تحت سقفك أيّها العالم
تحت سقفك يا الله
دائماً… دائماً
تولد الحياة بصمت
ودائماً.. دائماً تموت بلا ضجّة.
القصيدة جاءت على شكل لوحات سردية متحركة ترسم فوق السطور بريشة شاعر نثر الأسئلة إلى درجة لافتة من الذكاء العاطفي والشاعرية الفلسفية وحتى الصوفية في بعضها، هكذا صناعة الجمال المبتكر يكتسح ما قبله مهما كان نوعه فيلقي بجديد ما ابتكر على منصة الخلق الفني المميز، والشاعر مارس لذة الانجذاب أمام مصادر الدهشة.
وأخيراً أقول إن المجموعة الشعرية “أنفاس الياسمينة” هي مجموعة نصوص ثرية الإبداع تأخذك لعالم الحب ولجمالية الحرف السلس والعذب والموسيقا الهادئة بمشهد شعري حداثي وبأسلوب الشاعر المتفرد والذي يستوطن أعماق حروفه الدهشة.
هويدا محمد مصطفى