العلاقات الثّقافية السّورية – الصّينية.. ذكريات ووقائع
نجوى صليبه
كانت برامج الأطفال المدبلجة عن الصّينية بداية تعرّفي – كما أبناء جيلي – على ثقافة جديدة من خلال تركيزها على سلوك الطّفل كفرد مستقل وفاعل في الوقت ذاته في الأسرة والمدرسة والمجتمع، طبعاً هي عادات لا تختلف كثيراً عن عاداتنا، لكن يبقى كلّ جديد أو غريب عن الطّفل بمنزلة هدية جميلة يستمتع بفتحها ويندهش بمحتواها، ربّما في تلك المرحلة العمرية لم نكن قادرين على استيعاب الكثير ممّا يذكر ضمن هذه البرامج، لكن عندما كبرنا وصارت ذاكرتنا تسترجعها بحنين وشوق أدركنا جمالية طروحها وأفكارها وقدّرنا ثقافة هذا البلد العظيم أكثر.
مرّت الأيام وانتقلت إلى الجامعة، وهناك تعرّفت على بعض الطّلاب الصّينيين القادمين لتعلّم اللغة العربية، وكانوا بحقّ مثالاً للالتزام بالوقت والحضور والاحترام، كانوا يصلون مع بعضهم إلى المحاضرات المخصصة لهم في قسمنا قسم الصّحافة سابقاً – كلية الإعلام حالياً – ويطلبون توقيع الأستاذ المحاضر أو الدّكتور على البرنامج الذي يحملونه معهم دائماً، وكثيراً ما جرت أحاديث بيننا ونقاشات، كنّا نضحك عندما يلفظون أسماءنا بـ “لكنة مكسّرة”، وكانوا يضحكون عندما نقول لهم في اليوم التّالي: “إنّكم متشابهون إلى حدّ يصعب التّفريق بينكم”، وكانوا يعلّقون: “وأنتم كذلك بالنّسبة إلينا!”.
هي كلمة حقّ نقولها لأصدقاء قدامى كانوا خير من يمثّل بلادهم وينقل ثقافتها إلينا، ويترجم سياستها الثّقافية إلى فعل حقيقي، هذه السّياسة التي نتعرّف عليها أكثر من خلال ما كتبته “ون سه” الخبيرة في السّياسة الدّولية تحت عنوان: “الرّؤية الصّينية الجديدة تعزز دور الثّقافة في العصر الحديث” والمنشورة في موقع “شبكة الصّين ـ العربية” بتاريخ 13/ 6/ 2023، تقول: “تحتل الثّقافة دوراً مهماً في السّياسة الصّينية الحديثة، فالصّين تحافظ على مختلف التّفاصيل الثّقافية لجميع القوميات في البلاد، وتشجّع على توارث العادات المختلفة بين الأجيال، كما تسعى الحكومة الصّينية إلى التّعريف بالموروث الثّقافي الصّيني من خلال منهجية عميقة وشاملة تتعلّق بتوارث وتنمية الثّقافة الصّينية بين مختلف الأجيال، وتتميز سياسة الصّين الحديثة باستمرارية روح إحدى أقدم الثّقافات في العالم، من خلال ترسيخ العادات والتّقاليد الثّقافية والاعتزاز بالهوية الصّينية العريقة، وتتميز المنهجية الثّقافية الحالية في الصّين بالدّمج بين الماضي والحاضر وجعل الصّين دولة الثّقافات المختلفة بامتياز، كما تُقام في الصّين احتفالات مثيرة ونابضة بالحياة ومتنوّعة أهمّها مهرجان “عيد الرّبيع الصّيني” ومهرجان “قوارب التّنين” ومهرجان “منتصف الخريف” وغيرها من المهرجانات والأعياد التّقليدية القديمة الأخرى”.
وتبيّن “سه” أنّ الصّين أقامت العديد من المنصّات الخاصّة بالثّقافة والتّبادل الثقافي داخل وخارج البلاد، بهدف تعزيز كما تعاونت مع دول أخرى بهدف تعزيز التّعاون في مجال الثّقافة، ومن بين هذه الدّول الجمهورية العربية السّورية، إذ يلخّص موقع “الصّين اليوم” تاريخ هذه العلاقات الثّقافية بالقول: “حققت جهود الحكومتين الصّينية والسورية الهادفة إلى تعزيز التّعاون والتّبادل الثّقافي وإيجاد الآليات المناسبة لذلك نجاحاً كبيراً، فقد وقّع البلدان أوّل اتّفاق للتّعاون الثّقافي بينهما بتاريخ 18 /3/ 1965، وتبع ذلك توقيع العديد من البرامج التّنفيذية للاتّفاق الثّقافي، ويتضمّن البرنامج التّنفيذي 2005- 2008 التّعاون في مجالات التعليم والتّعليم العالي والثّقافة والفنّ والسّينما والآثار والمراكز الثّقافية والمكتبات والموسيقى والنّشر والفنون الجميلة وحقوق الملكية الفكرية، وتشجيع إقامة النّدوات والدّورات التّدريبية والمؤتمرات العلمية والمهرجانات والأسابيع الثّقافية والسّينمائية والمسرحية والمعارض الثّقافية، وبتاريخ 2/ 11/ 1983 وُقّع أوّل اتّفاق تعاون بين اتّحاد الكتّاب الصّينيين ونظيره السّوري، واختار اتّحاد الكتّاب العرب 105 روايات عربية لأدباء عرب في القرن العشرين لترجمها ونشرها في بكين، وبالفعل تُرجمت ونُشرت 14 رواية منها”.
تعاون استمرّ بين الاتّحادين وتجدد منذ فترة قريبة، إذ زار رئيس اتّحاد الكتّاب العرب الدّكتور محمد الحوراني جمهورية الصّين الشّعبية منذ بضعة شهور، وفي تصريح خاصّ للـ”البعث” يتحدّث الحوراني عن هذا التّعاون ويقول: “لا شكّ أنّ العلاقة السّورية – الصّينية علاقة متميزة وقائمة على الاحترام المتبادل منذ البدايات الأولى لتأسيس العلاقات عقب استقلال سورية، وهناك ثقافة متناغمة وتاريخ مشترك من القيم والمثل الإنسانية التي تجمع بين الصين وسورية تاريخياً، فثقافة التّسامح والمحبة والامتداد التّاريخي العميق للثّقافتين السّورية والصّينية له حضوره البهي في الثّقافة العربية والصّينية، لا بل إنّ الصّين كانت سبّاقة لكثير من دول العالم في احتضان اللغة العربية وافتتاح مراكز لتعليمها على معظم الأرض الصّينية الواسعة، ولعل أجمل ما يمتاز به الصّينيون في هذا المجال هو أنّ لكلّ صيني يتعلّم اللغة العربية اسم باللغة العربية إلى جانب اسمه الصّيني، لا بل إنّ من يتقن اللغة العربية أو يعرف القليل منها يحرص على التّحدّث بها في حديثه مع العرب وهذا ما لمسته شخصياً أثناء زيارتي، قبل أشهر، لإحدى الجامعات الصّينية التي تدرس اللغة العربية هناك، ومن جهة أخرى كان حرص الصّينيين كبيراً على افتتاح مراكز ومعاهد لتعليم اللغة الصّينية في كثير من الدّول الغربية ودول العالم، وهي تجربة رائدة يجب علينا في سورية الاستفادة منها وتعميق العلاقات الثّقافية والمعرفية مع الصّين من خلالها، صحيح أنّ هناك ترجمات من العربية إلى الصّينية وبالعكس، لكن يجب علينا أن نشتغل على هذا وفق إستراتيجية واضحة المعالم عميقة الرّؤى”.
ما ذكره الحوراني عن إعطاء اسم عربي لكلّ صيني يتعلّم العربية أمر سبقه إلى ذكره الدّكتور عماد مصطفى- سفير سورية في الصّين- في مقالته المنشورة منذ سنتين ونصف تقريباً، والتي تناول فيها علاقة ستة أدباء سوريين مع الصّين، وأمّا الأوّل فهو الشّاعر والمترجم عبد المعين الملوحي الذي عمل أستاذاً للغة العربية في جامعة بكين، ولم يكتف بتعريف السّاحة الثّقافية الصّينية بالأدب العربي، يوضّح مصطفى: “بعد عودته إلى سورية نشر على سبيل المثال المقتطفات من الشّعر الصّيني مترجمة إلى العربية عام 1967 وكان يترجم الشّعر الصّيني عن اللغة الفرنسية، كما ترجم كتابين آخرين هما “تاريخ الشّعر الصّيني من أوّل عصوره” و”تاريخ الشّعر الصّيني المعاصر” للباحثة “باتريسيا غيليرماز”.
سلامة عبيد هو الأديب الثّاني الذي لعب دوراً في تعميق العلاقات الثّقافية مع الصّين، وكما يوضّح مصطفى يعترف له أكاديميون صينيون متخصصون باللغة العربية بفضل عظيم في فتح آفاق اللغة العربية لهم واستكشاف مجاهلها، وزار الصّين أوّل مرّة في عام 1964، وفي عام 1972 دعته جامعة “بكّين” للعمل فيها مدرّساً للغة العربية فمكث فيها 14عاماً، كرّس خلالها نفسه لبناء جسور التّواصل بين الثّقافتين العربية والصّينية، فترجم ونشر مختارات من الشّعر الصّيني القديم عام 1983، وكان أكثر منجزاته أهمية على الإطلاق هو اشتراكه مع نخبة من الأساتذة الصّينيين في وضع أوّل قاموس شامل للغتين العربية والصّينية.
ويضيف مصطفى: “اشتغل حنّا مينة في بكين بدار نشر حكومية متخصصة بنشر الآداب العالمية، وعندما جئت إلى الصّين بذلت جهداً كبيراً في تقصّي مسار حياته في هذا البلد.. ووجدت أنّه خلّف رواية يكاد يكون النّسيان قد طواها وهي عبارة عن قصّة حبّ تدور أحداثها في الصّين، عنوانها “حدث في بيتاخو”.
وينتقل مصطفى إلى نزار قبّاني وعمله الدّبلوماسي في سفارة الجمهورية العربية المتحدة في بكين في الفترة ما بين عامي1960 – 1962، لقد زرت مقرّ السّفارة المصرية في بكين، وكان السّفير رجلاً مثقفاً محبّاً للأدب، فأخذني إلى إحدى غرف السّفارة وقال لي بفخرٍ كبيرٍ: “هنا كان مكتب نزار قباني”.
وأمّا الشّاعر أدونيس ، علي أحمد سعيد إسبر، فكان رابع رموز الثّقافة السّورية التي أثّرت في المثقّفين الصّينيين، يوضّح مصطفى: “فوجئت بأنّ لـ “أدونيس” جمهور كبير من المثقّفين الصينيين الذين يعرفون شعره جيداً، ويشترون دواوينه وأنّ معظم المشاهير من أدباء وفنّاني الصّين يتفاخرون بمعرفته ودعوته لزيارتهم في منازلهم ومحترفاتهم وصالات العرض التي يقيمون فيها معارضهم، لقد دأب “أدونيس” على زيارة الصّين باستمرار، وزار الكثير من مدنها ومقاطعاتها وأغرم بجبلها الأصفر، وألقى المحاضرات في جامعاتها واشترك مع أكبر شعراء الصّين في إحياء الأمسيات الشّعرية وسط حضور جماهيري كبير، وقد أصدرت دور النّشر الصّينية المرموقة العديد من مجموعاته الشّعرية مترجمة إلى اللغة الصّينية، ولعلّ السّرّ الأكبر في شهرة “أدونيس” في الصّين يعود إلى الجهود الجبارة التي بذلها البروفيسور “شويه تشينغ غوو” العميد السّابق لكلية الآداب العربية في جامعة الدّراسات الأجنبية في بكين، والذي اتّخذ لنفسه اسماً عربياً هو بسّام، فقد أغرم بشعر “أدونيس”، وأخذ على عاتقه مهمة ترجمة أشعاره إلى الصّينية، ورغم تهيبه من صعوبتها الكبيرة، لكنّه عمل جاهداً حتّى صاغها بلغة صينية راقية وجميلة، فلاقت استحساناً كبيراً لدى القراء الصّينيين”.
ويتابع مصطفى: “لم يجمعني القدر مع فراس السّواح، ولم أعرف عنه أو عن حياته الشّخصية شيئاً حتّى عام 2014، فقد حدث ذات يوم، أن جاء “أدونيس” إلى بكين، وكانت لديه محاضرة في جامعة الدّراسات الأجنبية، فتوجّهت لحضورها وهناك جاءني البروفيسور بسام برفقة رجل تشير هيئته إلى كونه متوسطياً وقال لي إنه يحب أن يعرفني على شخص سوري انضم، مؤخراً، إلى عضوية السّلك الدّبلوماسي التّدريسي في جامعته، مدّ الرّجل يده ليصافحني قائلاً: “أنا فراس السّواح”، وبالإضافة إلى التّدريس كان السّواح يعمل مع بسام على ترجمة أعمال فلاسفة الصّين الكبار “كونفوشيوس” و”منشيوس” و”لاوتزه” إلى العربية، وهذا عمل صعب جداً احتاج منهما إلى جهود جبارة وتكلل بالنّجاح بصدور ثلاثة مجلدات فاخرة ثنائية اللغة عام 2021″.