ملتقى حلب للفنون التشكيلية.. مواويل بإيقاعات تأريخية
حلب – غالية خوجة
لم تكن البيوت الحلبية بيوتاً للسكن فقط، بل كانت قيمة فنية وعمرانية إضافة لقيمتها التأريخية، ومكانها الجغرافي، خصوصاً، تلك المتجذرة في مدينة حلب القديمة، بدلالاتها المتنوعة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، ما يجعلها تروي حكاياتها بمشاهد عبرتْ فعلياً، لكنها ما تزال حديث الحجارة والأزقة والجدران والناس والفضاء، فتشعر بالطمأنينة أكثر وأنت تمضي في هذا المكان العريق الذي اعتبرته اليونسكو من التراث الإنساني العالمي.
جماليات تراثية وهوية بصرية
ومن هذه الدور مدرسة سيف الدولة القديمة بحي الفرافرة المطلة بأحد اتجاهاتها على قلعة حلب، والتي تبدو بحد ذاتها متحفاً فنياً بطريقتها المعمارية ونقوشها وزخارفها الحجرية والخشبية وأبوابها ونوافذها وسلالمها بدرابزينها الحديدية المؤدية إلى طابقها الثاني وسطحها، وقاعاتها وما تتضمنه من تراثيات وأيقونات بين كتب وأدوات استعمال يومي وزينة ولوحات وصناديق فسيفسائية ومزاهر ونحاسيات وغيرها.
وتتألف المنارة، المدرسة من فسحة كبيرة للاستقبال، ومبنى للعائلة ومبنى للخدم، وإيوانين، وقاعة خشبية فخمة متفردة تشبهها إلى حد ما قاعة العرش في القلعة وقاعة أخرى في متحف العالم الإسلامي في برلين، وهذه الدار الأثرية مرت بمراحل بعدما كانت بيتاً لأحد ولاة حلب ـ قطر آغاسي، وأصبحت مدرسة باسم سيف الدولة الحمداني، ثم مقراً لمديرية مدينة حلب القديمة ومديرية الآثار، وحالياً، هي منارة حلب القديمة التي عادت إلى حيويتها بعد الحرب والزلزال وإعادة البناء والترميم، لتضم عدة قاعات، منها: البحث العلمي، ذاكرة المدينة، تدريب مهني، أستوديو.
وعن سبب اختيار هذا المكان، أوضح لـ “البعث” أحمد كبة من الأمانة السورية للتنمية: للمنارة في حلب 8 مراكز، واخترنا هذا المكان العريق لتخديم حلب القديمة كاملة بمساحتها الجغرافية السكنية والتجارية والعمرانية، وهنا النافذة الواحدة واختصاصها أية عملية ترميم لأي مبنى يقع ضمن حيز مدينة حلب القديمة حفاظاً على الهوية البصرية التراثية المادية واللا مادية، وتفعيلاً للحركة الاقتصادية والسياحية والعمرانية والاجتماعية والثقافية والفنية وإعادة الحياة إلى سابقها ومتجددها، إضافة للحفاظ على المهن التراثية والحرفية اليدوية.
مواويل ملونة وطقاطيق تتشكل
وتحتفي هذه المنارة ببعدها الأثري والحاضر والحضاري،ولمدة 7 أيام آخرها 23 أيلول الجاري، بملتقى حلب للفنون التشكيلية وعنوانه “الفنون عتبة لتجاوز الآلام”، برعاية وزارة الثقافة بالتعاون مع الأمانة السورية للتنمية وبإشراف اتحاد الفنانين التشكيليين ومشاركة مجلس محافظة حلب وغاليري ألف نون، وبمشاركة 18 فناناً وفنانة سينتج كل منهم لوحتين، هم: أحمد برهو، بشير بدوي، جيران هدايا، ابتسام مجيد، أصلان معمو، خلدون الأحمد، سوزان حسين، إبراهيم داود، صلاح الدين الخالدي، علي حسين، ماري آن مرقص، إبراهيم علي، نعمت بدوي، هوري سلوكجيان، وحيد قصاص، بشار برازي، شيرين علو، لوسي مقصود.
وهم كما قال للبعث التشكيلي المشارك إبراهيم داود أمين سر فرع حلب لاتحاد الفنانين: مجموعة من الفنانين المتضررين من الزلزال الداعمين للمتضررين من الزلزال، وسيكون هناك معرض في ختام الملتقى الذي هو أول ملتقى للفن والتصوير الزيتي في هذا المكان بعد الحرب والزلزال، كوننا أقمنا ملتقى عام 1998، وعام 2019، وسيكون ملتقى آخر أوسع يدعمه القطاع الخاص كممول وأهلاً وسهلاً بكل من يريد مشاركتنا في هذا الدعم.
وتابع: أترك لبياض اللوحة تداعياتها الشاردة، لتمزج بين أنفاس من عبر من هنا، وذكريات الشجر الذي كان والذي ينبت، وحكايات لن تنساها الأمكنة وأنقاضها وهي تستعيد الحياة، وأكمل وهو يشير إلى أصص النباتات المنتشرة في المكان: والألم سيظل ذكرى بين الألوان المتفتّحة مثل هذه الورود.
إلهام مع ذاكرة استرجاعية
وعن مشاركته وتأثيرات المكان أخبرنا الفنان أحمد برهو: لولا المناسبة لما كنت هنا الآن، لأن الجلوس لساعات في هذا المكان بحد ذاته إلهام يشحذ فلا شباك الذاكرة ويرجعني إلى أكثر من 25 سنة مرت على رؤيتي الأخيرة لهذه المدرسة بخصوصيتها المختلفة عن بقية البيوت، ولقد أدهشتني الآن كعمارة وهو شعور داخلي أرسم به وكأنه كان يمتلك هذا المكان وتأثيراته في لوحاتي الحالية والقادمة.
منبع أوغاريتي
أمّا الفنان صلاح الدين الخالدي فأكد على الحضارة السورية القديمة كمنبع للتأريخ الإنساني وعطاءاته الفكرية والحضارية في الساحل السوري وصولاً إلى قرطاجنّة، وتابع وهو يرسم السفينة الفينيقية والمرأة السورية العريقة برموزها: رحل الحرف الحضاري، ورحلت الكتابة إلى تلك الأصقاع، ومن سورية خرج هانيبعل، وانتشرت الموسيقا.
ثم أشار بريشته متأملاً قائلاً: المكان الواقعي للمنارة وحلب امتزج مع المكانية البحرية في لوحتي التي ستشي بالكثير من الدلالات المتنوعة.
الهدوء خلفية ملونة
وعبّرت عن سعادتها الفنانة هوري سلوكجيان قائلةً: الفضاء أمامي والتأريخ معي، ولذلك، أشعر بأنها تجربة مختلفة عن بقية مشاركاتي، ورغم صعوبة التركيز إلاّ أن الهدوء يمنح طاقة إيجابية جعلني أبدأ بخلفية ملونة ليستقر عليها مبنى حلبي قديم، ولوحتي الثانية ستكون لشخصية نسائية سورية.
الضاد بلون أزرق
وبينما ينهمك الفنان خلدون الأحمد مع لوحته الحروفية التي قاربت على الانتهاء، أجابني: مبنى المنارة حالة من الجمال بجوها الشرقي، وتكويناتها العمرانية، وفنيات قناطرها وزخرفتها، وهي أبجديتنا التراثية، ولغتنا أيضاً أبجديتنا تراثنا، وهذا ما دفعني لتشكيل هذه الحروفيات من الضاد ومفاتنه مع الحروف الأخرى بالأزرق الموحي بالسكينة، والأبيض المتشابك معه.
تراثنا الشرقي
وبدورها، قالت الفنانة سوزان حسين: شعرت بأن تركيزي على التراث الشرقي والزخرفة النباتية تستهويني، وانعطفت مؤخراً إلى رسم الأماكن المعمارية القديمة من كنائس ومساجد وبيوت، وأحالني المكان إلى طفولتي، وجعلني أرسم كنيسة السيدة مريم لأن بيت جدي كان أمامها، وكنت أتأملها، وما زلت أحن إلى ذاك المكان فأذهب إليه، وحالما بدأت بلوحتي الأولى، وجدتني أرسمها تبعاً لما تراكم في ذاكرتي، وها أنا ألون بتكتيك الخشونة ليبدو حجر الكنيسة في اللوحة كما في الواقع.