هل ستصبح اليونسكو منصة أخرى للخلافات بين الولايات المتحدة والصين؟
عناية ناصر
أعيد قبول الولايات المتحدة في اليونسكو خلال جلسة استثنائية للمؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في 30 حزيران 2023، بأغلبية 132 صوتاً مؤيداً، وكانت الولايات المتحدة المنظمة قد غادرت في كانون الأول 2018 في عهد الرئيس دونالد ترامب، بحجة التحيز ضد “إسرائيل” بعد أن صنفت اليونسكو موقعاً تاريخياً في مدينة الخليل بالضفة الغربية كموقع للتراث العالمي الفلسطيني. ووصفت أودري أزولاي، المدير العام لليونسكو،عودة الولايات المتحدة إلى الانضمام بأنها “يوم عظيم لليونسكو وللتعددية” وفق زعمها. إلا أنه كان للصين موقفاً مختلفاً حيث صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية بأن “المنظمات الدولية ليست منتزهات، ولا يجوز للدول أن تأتي وتذهب كما تشاء”. وفي ذات الإطار رحبت وزارة الخارجية الروسية بـ”إعادة دمج الولايات المتحدة” ولكنها أشارت إلى أن الولايات المتحدة لا ينبغي لها أن تنتهك دستور اليونسكو.
الانسحابات الأمريكية السابقة من اليونسكو
لم يكن انسحاب عام 2018 هو المرة الأولى التي تنسحب فيها الولايات المتحدة من اليونسكو، فقد فعلت ذلك سابقاً في عام 1983 في عهد الرئيس رونالد ريغان، ولم تنضم مرة أخرى إلا في عام 2003 في عهد الرئيس جورج بوش.
تأسست اليونسكو في 16 تشرين الثاني عام 1945 لتعزيز القيمة الإنسانية “للسلام الدولي” من خلال التعليم والعلم والثقافة. ومع ذلك، فقد ثبت أن تحقيق هذا الطموح يمثل تحدياً، ويرجع ذلك أساساً إلى سياسات الحرب الباردة. ولم يعكس التنافس على مسرح اليونسكو التوترات بين الشرق والغرب فحسب، بل يعكس أيضاً الانقسام بين الشمال والجنوب. لقد طبقت الولايات المتحدة الدبلوماسية الثقافية، أو محاربة الانطباع السلبي عن الولايات المتحدة من خلال الثقافة والتعليم والإعلام بقوة خلال الحرب الباردة لمواجهة الكتلة السوفيتية، واعُتبرت اليونسكو شريكاً هاماً من قبل الإدارات الأمريكية في تعزيز “القيم الأمريكية”.
وعلى الرغم من كون الولايات المتحدة، من أشد المؤيدين لليونسكو، منذ البداية تقريباً، كانت علاقتها بالمنظمة متناقضة. قطاع التعليم، الذي يشكل أولوية قصوى بالنسبة لليونسكو لمكافحة الأمية في جميع أنحاء العالم، خضع لتدقيق مكثف من قبل الولايات المتحدة. وقد اتُهمت المنظمة بأنها “مؤيدة للشيوعية”، وزعمت الولايات المتحدة أن العديد من البرامج التعليمية التي بدأتها المنظمة تتعارض مع “المثل والتقاليد الأمريكية”. وباعتبارها أكبر مساهم مالي، اتهمت الولايات المتحدة أيضاً اليونسكو بسوء الإدارة وزيادة عدد الموظفين، من بين حالات أخرى. وأشار المحللون إلى أن الولايات المتحدة تبنت موقف “الإهمال الحميد” تجاه اليونسكو. وزادت حدة العداء عندما عرضت دول حركة عدم الانحياز في السبعينيات اقتراحاً بشأن “النظام العالمي الجديد للإعلام والاتصالات” إلى اليونسكو، داعياً إلى تغييرات كبيرة في وسائل الاتصال. اعتبرت الولايات المتحدة ” النظام العالمي الجديد للإعلام والاتصالات” بمثابة اعتداء على حرية الصحافة، واتهمت المدير العام لليونسكو أمادو مهتار بتعزيز ودعم اقتراح غير ليبرالي، وهددت بحجب التمويل عن المنظمة. على خلفية كل هذه القضايا المثيرة للجدل، اتهم وزير الخارجية الأمريكي، جورج شولتز، في إشعار الانسحاب في كانون الأول 1983، منظمة اليونسكو بأنها تخدم “بشكل غير لائق الغرض السياسي لعدد قليل من الدول الأعضاء”.
انضمت الولايات المتحدة مرة أخرى إلى المنظمة في أيلول 2003. وصرح الرئيس جورج بوش أن اليونسكو “تم إصلاحها وأن أمريكا ستشارك بشكل كامل في مهمتها لتعزيز حقوق الإنسان والتسامح والتعلم”. وقد تم تنفيذ الإصلاحات التنظيمية بالفعل من قبل المدير العام كويشيرو ماتسورا، الذي تولى منصبه في عام 1999. ومع ذلك، كما لاحظ باتريك مينديس، المفوض الأمريكي السابق للجنة الوطنية الأمريكية لليونسكو، فإن إعادة انضمام الولايات المتحدة كانت أيضاً “محاولة لتعزيز حسن النية والحصول على دعم أوسع من المجتمع الدولي” لليونسكو لحربي أفغانستان والعراق، و”إصلاح صورة أمريكا العالمية باستخدام أدوات القوة الناعمة داخل منظومة الأمم المتحدة”. لعبت منظمة اليونسكو، خلال الحروب في أفغانستان والعراق، التي تحدد مواقع التراث العالمي، دوراً حاسماً في إعادة المراكز الثقافية التي دمرت.
وتوترت العلاقة مرة أخرى عندما اعترفت اليونسكو في تموز 2011 بفلسطين كدولة كاملة العضوية، حيث قام الرئيس أوباما بتعليق التمويل لليونسكو، حيث يحظر القانون المحلي الأمريكي دفع الأموال لأي هيئة تابعة للأمم المتحدة تقبل فلسطين كعضو كامل العضوية. وتأججت المشاعر العدائية أكثر عندما صنفت منظمة اليونسكو، في تموز 2017، الحرم الإبراهيمي التاريخي في مدينة الخليل بالضفة الغربية، كموقع للتراث العالمي الفلسطين. ونتيجة لذلك، قام الرئيس ترامب، بحجة “التحيز ضد إسرائيل”، بسحب الولايات المتحدة من المنظمة في كانون الأول 2018.
العامل الصيني
إذا كان الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو السبب الرئيسي وراء انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو في عام 2018، فإن عودة الولايات المتحدة للمرة الثانية تتعلق أكثر بنفوذ الصين المتزايد . وأشار وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الإدارة، جون براس، في آذار 2023، إلى أن غياب الولايات المتحدة عن اليونسكو لم يؤدي إلا إلى تعزيز الصين وتقويض “قدرة الولايات المتحدة على أن تكون فعالة في تعزيز رؤيتنا لعالم حر”. وأضاف براس قائلاً: “إذا كنا جادين حقاً بشأن منافسة العصر الرقمي مع الصين… فلا يمكننا أن نتحمل الغياب لفترة أطول”. وأشار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى أن العودة إلى اليونسكو لا ينبغي أن يُنظر إليها “كهدية لليونسكو، ولكن لأن الأشياء التي تحدث في اليونسكو مهمة بالفعل” لأن المنظمة تعمل على قواعد ومعايير الذكاء الاصطناعي”… نريد أن نكون هناك” . وأشار بلينكن إلى أن الصين كانت أكبر مساهم منفرد في اليونسكو و”نحن لسنا متواجدين على الطاولة”.
وبموجب المادة 2 من دستور اليونسكو، يحق للولايات المتحدة الانسحاب من المنظمة وإعادة الانضمام إليها، لكن تحذير الممثل الدائم السابق للولايات المتحدة لدى اليونسكو، ديفيد كيليون، من أن الانسحاب من اليونسكو والعديد من وكالات الأمم المتحدة الأخرى “يمهد الطريق أمام قوى أخرى للعب دور أقوى في اليونسكو” تبين أنه كان صحيحاً. وقد أشار إليه أيضاً الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم (AAAS) أن انسحاب الولايات المتحدة يعطل التعاون العلمي الدولي، ويقلل من الثقة في القيادة العلمية الأمريكية ومصادرة حقوق المشاركة في إدارة المبادرات العلمية التي تقودها اليونسكو. ومن المثير للاهتمام أن الفراغ الناجم عن انسحاب الولايات المتحدة قد ملأته الصين، التي أصبحت واحدة من أكبر المساهمين في ميزانية اليونسكو.
ومع وجود 56 موقعاً للتراث الصيني محمية من قبل لجنة التراث العالمي، أصبحت الصين ثاني أكثر دولة محمية في العالم بعد إيطاليا . وقد حظي التزام الصين بتعزيز الحوار الثقافي والتنوع من خلال” مبادرة الحزام والطريق” بتقدير اليونسكو. علاوة على ذلك، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، بدأ التعاون المشترك بين اليونسكو ومبادرة الحزام والطريق في العديد من مشاريع العلوم والتعليم.
المضي قدما ً
إن منظمة اليونسكو ليست مجرد وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، فمهمة اليونسكو سامية كما جاء في الكلمات الافتتاحية لدستور اليونسكو: “بما أن الحروب تبدأ في عقول البشر، فيجب بناء دفاعات السلام في عقولهم”. وبدافع من الحرب العالمية الثانية وإسقاط القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي، أثار المجتمع العلمي على وجه الخصوص مخاوف بشأن “ما سيفعله العلماء بنا بعد ذلك”. لقد كان الهدف من تأسيس اليونسكو هو تغيير “عقول البشر” من خلال بناء “الدفاع عن السلام” من خلال النزعة الإنسانية للعلم والتعليم والثقافة على أمل منع حدوث فظائع أخرى مرة أخرى.
وعلى المدى القريب، من المؤكد أن عودة الولايات المتحدة ستعطي دفعة مالية كبيرة لليونسكو، حيث سيتعين عليها دفع أكثر من 600 مليون دولار أمريكي كرسوم مستحقة . ولكن على المدى الطويل، يلقي التنافس الصيني الأمريكي المتصاعد بظلاله على عمل منظمة اليونسكو، كما يجري تأطير العلوم والتكنولوجيا بشكل متزايد ضمن لغة الأمن القومي والمنافسة الجيوسياسية. هل ستصبح اليونسكو منصة أخرى للخلافات بين الولايات المتحدة والصين، أم أنها ستحقق أهدافها السامية على النحو المنصوص عليه في دستورها؟.