فاطمة إسبر وبانوراما التلاشي موجاً
غالية خوجة
تطل أمواج البحر الأبيض المتوسط القريبة من جبلة ألواناً تتشكّل حكايات جذرها في قرية قصابين وفروعها تمتد لتضم الوطن والإنسان في أعمال الكاتبة التشكيلية فاطمة إسبر، عاكسة رحلتها الموزعة بين أماكن دراستها بين سورية ومصر وإيران والمجر، ورحلتها مع الحياة والمعارض الفردية والمشتركة وأعمالها التي صارت أغلفة لكتب مختلفة، ورحلتها مع الكلمة الشعرية المرسومة بقصائدها وألوانها التي أنتجت منها لوحات متنوعة بتشكيلات بريّة وعناوين شعرية، ودلالات تتكاثف لتعكس لغة بصرية بملامح بانورامية من المدارس الفنية، لكنها تتميز بطفولة تعبيرية تؤكد عفوية التوجه إلى اللوحة دون مخطط مسبق، لكنّ البوصلة هي الفكرة ومشاعرها الآنية التي تترسب مع الخطوط والألوان لتتناغم مع أبعادها بين الكتلة والفراغ والعناصر الأخرى، منجذبة إلى بنية تريد أن تخبرنا بكل ما في الأعماق دفعة واحدة.
الصمت اللوني الناطق
تجرب إسبر التنويع، فتمزج الشكل مع الطبيعة على خلفية سوداء، لتطل منها الذاكرة والأحلام كما الإنسان المؤنث كشخصية بطلة تورق مثل الأشجار، وتزهر الورود الحمراء نبضاتٍ من محبة واستفهامات، وقد تكون الأرض بطلة بلونها الترابي وتدرجاته وإيحاءاته الغارقة في الصمت الأخضر والأحمر والأصفر والأبيض والأخضر، الناطقة ما وراء الألوان وهي تنشر ذراتها ببطء بين الليل والنهار، أو تنشرها بتسارع غرائبي عاكس للأحزان والتدمير التي خلّفتها الحرب الظالمة على سوريتنا الحبيبة.
مدلولات زرقاء
أمّا البحر، فهو المحور الشامل الظاهر والمتخفي في أعمالها، لأنه قد يكون البطل، أو الراوي، أو الظل، أو الذات، أو الآخر، أو الحالة، لذلك، تتعدد مدلولات البحر في أعمال فاطمة إسبر، لتكون رمزية ومكانية وأبجدية وفضاء مكتوباً ولا مكتوباً، وتتحرك سكوناته لتذكرنا بمن كتب عن البحر وغنّى له ورسمه، ومنهم آرثر رامبو وقصيدته المركب النشوان الذي تاهَ مع ذاته بين أمواج الحياة، وسان جون بيرس ومراكبه التي لم تجد الشواطئ حتى الآن، وفيروز التي ما زالت تصدح بـ”هيلا يا واسع”، والروسي إيفان إيفازوفسكي الذي أبدع لوحته الأشهر “الموجة التاسعة” التي هجمت على الأمواج وما تحمله، لكنّ الأشخاص المتشبثين بسارية السفينة المحطمة ينتصرون عليها بالنجاة مع بزوغ الفجر.
نهايات مفتوحة على التلاشي
يتخذ البحر الواقعي مع البحر المتخيّل أمواجه لتتشكّل ذواتاً إنسانية، تشخصن الماء، وتوشوشه، وترسمه وجهاً إنسانياً غارقاً في تأملاته التي تشكّل نصف وجهه المتضافر مع تدرجات الأسود الكثيف والأزرق والأبيض اللطيف والعين المغمضة، وطافياً في تساؤلاته التي تشكّل نصف وجهه الآخر المتسرب من اللون الأزرق إلى اللازوردي وهو ذاته لون العين المفتوحة والأبيض الذي يحيط باللوحة وكأنه لحظة التقاء المدّ بالغيم، والحلم بالواقع، والذاكرة بالزمان، والسؤال بالإجابة، والدموع بالآلام والآمال، والصوت بالصدى، والذات بالمجتمع، والظاهر بالباطن، والموت بالحياة، بينما تطل إشراقة النور الأصفر الشمسي من الزاوية اليسرى لتتغلغل أولاً وبرمزية ما إلى أعماق الشخصية البطلة، منتقلة منها إلى البدر الفضي في الزاوية اليسرى، وتصل بين هذه العناصر المضاءة موسيقا زرقاء يتوجها جسر بخط عمودي صغير بين الشمس والقمر والجبين، فترتطم الأفكار والمشاعر من جديد، وتعود للتلاشي الأفقي مع الملامح والموج والإيقاعات التي تمارس “اليوغا” بتداعيات خضراء خفيفة تتملص من حكايات الدخان والضباب الصاعدة من نصف الوجه الغارق، لتتلاشى موجاً متحولاً إلى ظل أسود بهيئة كائن بحري كأنه الحوت، أو سمكة القرش، أو كائن قابل لأن نتخيّله فيما لو جعلنا شخصية اللوحة تتنفّس الصعداء لتنفث شوائبها الداخلية مع أحزانها، وتسترد الشهيق غيماً ومحبة ونوراً، فتستعيد العين الرامزة إلى الأعماق مراياها الصافية، وتتعانق مع صوت المكونات على الشاطئ وفي الأعماق كما تتعانق حكاياتُ المدّ والجزْر مع حركة الرمال، ومشاهدُ الكائنات البحرية تحت الموج العميق، وعناصر التكوين في أعماق الكون السحيق.