إفريقيا تفجّر تناقضات أزمة الحداثة الغربية
تقرير اخباري
بعد أن شكلت فرنسا رمزاً أوروبياً للدفاع عن القيم الإنسانية بشكل متناسق ومنسجم بُعيد الثورة الفرنسية، مثل قيم الحرية، وتمجيد الفرد، والعدالة، واحترام الآخر، سرعان ما اصطدمت تلك القيم بحواجز حطمتها كالحروب ضمن أوروبا والنزعات الفاشية المتطرّفة، وميل دول القارة إلى استباحة واستعمار أراضي غيرها من الشعوب، وأصبحت أوروبا أمام قيم جوفاء ببواطن شريرة تحاول إلصاق قبحها بالغير لمعاداته وشيطنته، متسلحةً بنظرية “التفوق الحضاري الأوروبي” ومدعومة بماكينتها الإعلامية القوية.
ولكننا اليوم نقف أمام تطورات غير مسبوقة وسريعة عززتها انتفاضة الشعوب الإفريقية وتفجّر وعيها في مجابهة القيم الغربية الاستعمارية التي حاولت تحطيم نسيجها الاجتماعي والثقافي والسياسي والإثني، ولكن بعد أن تنبهت هذه الشعوب للكارثة أدركت أنها تمثل عبر وعيها وإمكانات أرضها حجر الزاوية في العالم متعدد الأقطاب، فقررت تبوء ذلك المكان بقوة ودون تردد.
وقد ترتب على ذلك بداية فرط العقد الغربي ابتداءً من التخبط الفرنسي وسقوط الرئيس إيمانويل ماكرون من عيون وقلوب تلك الشعوب بعد ظهور خداعه سواء في الجزائر التي زارها باحثاً عن الغاز وعن بوابة لربط بلاده مع إفريقيا، واعداً بالاعتراف بماضي وجرائم بلاده الاستعماري لينكث بوعده بمجرد وصوله باريس، ويلاقي بعدها ناراً متقدةً ضدّه سواء من المهاجرين الجزائريي الأصل والأفارقة الذين أساء معاملتهم، أو حتى من دولة الجزائر التي أخذت على عاتقها السير في منحىً بعيد كل البعد عن فرنسا، والغرب عموماً، مقابل تقوية علاقاتها وبنائها للمبادرات والحوارات الإفريقية – الإفريقية، ومع قوى الشرق الصاعدة.
أما ثاني تلك التخبطات، فقد ظهرت جليةً في أزمة النيجر، حيث لوّح ماكرون بالتدخل كما حرّض “إيكواس” على التلويح بذلك، ومن ثم ادعى أنه عازم على التفاوض مع المجلس العسكري، ليعود ويؤكد أن إعادة إنتشار جيشه لا تكون إلا بطلب من الرئيس المخلوع محمد بازوم الذي كان يتيح له نهب اليورانيوم النيجري بأبخس الأثمان، مدعياً عدم شرعية المجلس. وأمام هذا التخبط بدأ التصدّع يظهر بقوة ضمن “إيكواس” التي سرعان ما استبعدت التدخل كحل للأزمة، إضافةً إلى عزل أوروبي كامل لماكرون وسياساته الفاشلة في القارة الإفريقية، إذ بات من الواضح أن سياسة فرنسا الاستعمارية لن تجلب لها سوى مزيد من النبذ الإفريقي، ومزيد من المهاجرين إلى بلادها، أما نهب الثروات الذي كان طموحها الأول فقد ولّى إلى غير رجعة، وحتى الإدارة الأمريكية قرأت هذا المشهد سابقاً وادعت، ولا نعلم إن كانت جادة، أنها ستغير مقاربتها في القارة السمراء، وسترسل مليارات دولاراتها إليها لإنشاء “مشاريع تنموية”، في وقت تتابع فيه تدريب وتأهيل عناصر من الجيوش الإفريقية في مقرّ قيادة قواتها “إفريكوم” لزرعهم كأذرع لطرد الاستقرار وبثّ الخراب ضمن القارة.
واليوم يظهر استسلام ماكرون التام، والذي يحمل دلالات تؤكد حتمية تراجع الغرب كله عن مشروعاته في استعمار الشعوب واستغلالها عبر علاقات غير متكافئة، ليعلن فجأة عن سحب قواته وسفيره من النيجر، مستسلماً أمام قوة الموقف الشعبي الإفريقي والقوى الصاعدة ضمن القارة نفسها بقيادة الجزائر، وما تبعها من تحالفات جديدة أعلنت الحرب على من يحارب النيجر.
بشار محي الدين المحمد