“العقدة الاجتماعية” لا زالت تجهض الرغبات الحقيقية للطالب وتعيق الإبداع!
اختيار الطالب الناجح في الثانوية العامة لرغبته في التخصص الجامعي لا زال يخضع لمجموعة من الاعتبارات تتحكم وتؤثر بالوصول إلى الاختيار الصحيح، فإذا سلمنا بالعلامة كمعيار وحيد للقبول، وهو بلا شك ظالم وغير عادل، تبقى العقدة الاجتماعية متجذرة عند غالبية الأسر التي لا ترضى أن يدرس الأبناء إلا بالكليات الطبية أو الهندسية من أجل تحقيق المكانة الاجتماعية التي تليق بسمعة العائلة دون أي اعتبار للرغبة الحقيقية للطالب!.
تقليص الإبداع
للأسف في ظل هذا الفهم الخاطئ لمستقبل الأبناء يتم تهميش رغباتهم الحقيقية لمصلحة اعتبارات خاصة متعلّقة بالجانب الاجتماعي، علماً أن أي تخصص حتى لو كان في العلوم الإنسانية أو معهد تقني يمكن أن يكون مجالاً رحباً لإبداع الطالب، وبالتالي يجب ألا ينحصر الاهتمام بالأقسام أو الكليات ذات المعدلات العالية كالطب والهندسة والصحافة والحقوق، لأن الأمر في الواقع تابع لتعدّد الرغبات والاهتمامات في المجتمع، فهناك من اهتم منذ صغره بالنجارة أو الحدادة مثلاً، أو غيرها من الحرف، ولا يمكنه بحال من الأحوال أن يطوّع رغبته للدخول في اختصاصات أخرى، لما لذلك من أثر في تقليص مساحة الإبداع لدى الفرد.
عدة اعتبارات
الدكتور عاصم قداح أمين المجلس الأعلى للتعليم التقاني في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ذكر في حديث لـ”البعث” أن إقبال الطلاب على التسجيل باختصاص محدد في الجامعة تتحكم فيه عدة اعتبارات أهمها (وبحسب واقعنا) الموقف الاجتماعي من خريجي اختصاص محدد ومن ثمَّ فرصة العمل المستقبلية، وفي ذيل الاهتمامات تأتي ميول ورغبة الطالب وهواياته ومواهبه، ما يعني بحسب قداح أن قلة من الطلبة يختارون اختصاصاتهم استناداً إلى رغباتهم أو إلى ميولهم، فيما تلعب الاعتبارات الاجتماعية وفرص العمل العوامل الدور الأبرز في توجهات الطلاب بل على الأصح أهاليهم في اختيار الاختصاصات التي يرغبون بدراسة أبنائهم فيها، وبيّن قداح أن الموقف الاجتماعي من الاختصاصات المختلفة يرتبط بطبيعة الاختصاص والتسمية، فمثلاً لا يحظى الخريج في كليات نظرية كالآداب بنفس المكانة الاجتماعية التي يحظى بها خريج في الكليات الطبية وكليات الهندسة بأنواعها المختلفة. إذاً فإن المكانة الاجتماعية وفرصة العمل يشكلان الأساس الأهم في توجهات الطلاب وأهاليهم، بالإضافة إلى اعتقاد البعض إن المعاهد التقانية ومن يدرس ويتخرج فيها ينظر لهم بنظرة دونية من المجتمع، وهذه نظرة خاطئة، لأن هناك معاهد تقانية طبية ومعاهد تقانية للحاسوب تحظى بإقبال شديد وواضح نظراً لتوفر فرصة عمل لخريجيها (في القطاع الخاص) مما يؤمن مستوى معيشي أفضل من خريجي المعاهد الأخرى.
غياب التوعية
وأشار أمين المجلس إلى نقطة مهمّة أخرى تؤثر في اختيار الاختصاص الجامعي، وهي عدم وجود توعية مجتمعية كافية للأهل والطلاب على حدّ سواء، الأمر الذي يتطلب إقناع الأهل بترك حرية الاختيار لأبنائهم للاختصاص الذي يرون أنفسهم فيه، دون النظر إلى الاعتبارات الأخرى لأن حياة الناس في المجتمع تحتاج إلى جميع المهن، وكل المهن ضرورية للإنسان عند الحاجة إليها، ولا فضل لمهنة على أخرى، بل يجب أن يكون الاختيار أصلاً منمّياً للرغبة الحقيقية للطالب، وهذا بحد ذاته هو المدخل الرئيس للإبداع، بمعنى أن لا ينبهر الطالب بالأسماء الكبيرة للكليات دون أن تكون لديه القدرة على الإبداع فيها.
تنظيم سوق العمل
وبرأي قداح فإن موضوع اختيار التخصص مرتبط برمته بتنظيم سوق العمل وإعادة توزيع الوظائف وفق المهارات والإمكانات والتأهيل الذي حصل عليه الخريج، لأنه في ظل غياب هذا التنظيم فإن الخريجين في الجامعات يشغلون وظائف في كثير من الأحيان يجب أن يشغلها خريج المعاهد وفي بعض الحالات يمكن أن يشغلوا أعمالاً يجب أن يقوم بها حرفيون، موضحاً أن هذه العشوائية في سوق العمل تنعكس على الإنتاج بحد ذاته وعلى المؤسسات التعليمية وعلى الموقف الاجتماعي لخريجي هذه المؤسسات.
وأضاف: إن إعادة هيكلة التعليم وفق هرمية صحيحة هي مسؤولية اجتماعية تبدأ أولاً من تنظيم سوق العمل وتوصيف العمالة في كل مجال وتحديد المتطلبات اللازمة لكل منشأة ومن ثم تحديد أعداد وأنواع الخريجين لشغل الأعمال في تلك المؤسسات، مشيراً إلى أن اللجنة العليا للاستيعاب الجامعي قامت هذا العام باعتماد توزيع حملة الثانويات على الاختصاصات المختلفة وتمت مراعاة زيادة المقاعد المتاحة للمعاهد التقانية بنسبة جيدة مما يساعد على تأمين خريجين من الاختصاصات المختلفة يلبون احتياجات سوق العمل وفق الإستراتيجية العامة في تأمين هذه الاحتياجات.
تغيير إيجابي
وفيما يخص التقدم للمفاضلات عن بعد (المفاضلة الالكترونية) لأول مرة هذا العام اعتبر قداح أن هذا التغيير في طريقة التقدم للمفاضلة يسهل على الطلاب وذويهم عملية التسجيل والمتابعة مع إمكانية قيام الطالب تعديل رغباته خلال فترة التقدم للمفاضلة أكثر من مرة بينما كان في السابق إذا رغب الطالب بتعديل رغباته عليه أن يراجع مراكز المفاضلات لتعديل هذه الرغبات وكانت هذه الإمكانية متاحة لمرة واحدة فقط.
كما أن هذه الخطوة ساعدت على دمج عدة أنواع من المفاضلات في بطاقة واحدة مما يساعد الطالب على تحديد اختياراته مرة واحدة دون انتظار نتائج المفاضلة العامة للبحث في التقدم لمفاضلة التعليم الموازي وغيرها من المفاضلات.
آراء متباينة
أثناء اللقاء مع عدد من الطلاب، تنوّعت آرائهم بين من يصرّ على وجود الرغبة كأساس لاختيار الفرع الذي يرغب فيه، وبين مَن يبحث عن دخول هذا الفرع أو ذاك لمجرّد الوصول إلى المكانة الاجتماعية المرموقة التي ترضيه وترضي أهله، إضافة إلى المردود المادي الكبير، حيث فضّل أحدهم التسجيل في المعاهد التي لا تتطلّب معدّلات دراسية عالية، مبرّراً ذلك بأنه غير مستعدّ لإنفاق ساعات طويلة في الدراسة من أجل دخول كلية هو أصلاً لا يرغب في دخولها، وبالتالي دفن عبقريّته ورغبته الحقيقية، مع وجود مخاطر كبيرة لجهة فشله في النجاح في هذا الفرع أصلاً.
غير مؤهلين!
وهناك فكرة أخرى مهمّة أشار إليها البعض، وهي أن وصول الطلاب إلى الكليات المدللة والمؤثرة في المجتمع دون وجود دافع حقيقي لديهم للاختصاص فيها فقط لإرضاء رغبة أهله له آثار سلبية لجهة عدم توفر الكفاءة في العمل، وخاصة إذا استطاع الطالب أن يبلغ النجاح دون جهد أو فهم كامل لطبيعة الاختصاص، الأمر الذي يؤدّي مستقبلاً إلى خروج طلاب إلى سوق العمل أطبّاء ومهندسين غير مؤهلّين لحمل شرف المهنة، وبالتالي المغامرة بأرواح الناس، عبر طبيب لا يستطيع تشخيص الأمراض جيّداً، أو عبر مهندس لا يتقن الأمور الأساسية المتعلقة بالأبنية، وغير ذلك من المخاطر التي تحملها مثل هذه الظاهرة.
بمعنى هناك من يختار الكليات الطبية مثلاً لما لها من مردود مادي مغرٍ، دون أن تكون هناك رغبة حقيقية في دخول هذه المهنة الإنسانية، وبالتالي فإنه يحجز مكاناً له في هذا الحقل على حساب غيره ممن يستحق هذا المجال، ولكن لم تساعده درجاته على بلوغه.
وهنا أشار رئيس قسم الجغرافيا في كلية الآداب بجامعة دمشق الدكتور ناظم عيسى أن السبب في اختيار الطالب للفرع الذي يريد الدراسة فيه يتوقف بالدرجة الأولى على درجاته بالثانوية العامة والبحث دائما عن الفروع التي يتوافر لها فرص عمل للشباب في المستقبل معرجاً على دور الأهل في اختيار الاختصاص واتجاههم لذلك من باب “البريستيج” لا أكثر وهنا يجب على الإعلام بكافة مجالاته القيام بتوعية الأهل بخصوص هذا الأمر للحد من هذه الظاهرة التي تقتل الرغبة الحقيقية عند الطالب!.
وفاء سلمان