الغرب ينتهز الفرصة في إقليم كراباخ
هيفاء علي
تتضاعف مؤشرات عودة التسخين في الأزمة بين أرمينيا وأذربيجان، وتنطوي المؤشرات على احتمالين متناقضين تماماً: الاحتمال الأول حصول جولة جديدة من الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، والاحتمال الثاني أن يكون التسخين بهدف تحريك العملية التفاوضية بين حكومتي البلدين، للوصول إلى تسوية سياسية للنزاع على إقليم ناغورنو كاراباخ تكون مقبولة من الطرفين، ويؤدي فيها الغرب دور الوسيط الرئيسي، على حساب الدور الروسي.
خلال الأيام القليلة الماضية، شهدت الحدود بين أرمينيا وأذربيجان توتراً في الأوضاع، عندما جرت عمليات إطلاق نار واتهامات متبادلة بين الطرفين في الأول من أيلول الحالي. حينها، ذكرت وزارة الدفاع الأرمينية في بيان أن “وحدات من القوات المسلحة الأذربيجانية فتحت النار من أسلحة خفيفة باتجاه المواقع الأرمينية الواقعة في منطقة نوراباك، وأعلنت الوزارة مقتل اثنين من جنودها وإصابة جندي آخر خلال قصف أذربيجاني لمواقع أرمينية في قطاع سوتك في منطقة جيجاركونيك. بدورها، أعلنت وزارة الدفاع الأذربيجانية أن الجانب الأرميني وجّه ضربات مدفعية إلى مواقع الجيش الأذربيجاني في منطقة كيلبجار”.
وفي تطور لافت، جرى تدريب أمني أرميني، أميركي مشترك في الفترة الممتدة بين 11 و20 أيلول الحالي، الهدف منه “رفع مستوى خبرات الوحدات المشاركة في بعثات حفظ السلام الدولية”. سيشمل التدريب عمليات تثبيت العلاقات بين الأطراف المتنازعة عند القيام بمهام حفظ السلام، إلى جانب هدف تبادل الخبرات المتقدمة في مجال السيطرة والاتصالات التكتيكية، واستعداد الفرقة الأرمينية للعمليات المخطط لها.
يمكن اعتبار هذه التدريبات، على الرغم من محدوديتها، مؤشراً مهماً على توجهات يريفان، لا سيما إذا جرى ربطها بتجميد أرمينيا فعلياً التعاون في إطار ” منظمة الأمن الجماعي”، وهو تجمع عسكري لدول كانت منضوية في الاتحاد السوفييتي سابقاً، فقد رفضت، في كانون الثاني الماضي، استقبال مناورات المنظمة على أراضيها في العام الحالي.
وفي قمة المنظمة التي عُقدت في يريفان العام الماضي، امتنعت أرمينيا عن التوقيع على وثائق مشتركة، مبررة ذلك بأن الحلفاء لم يقدموا لها الدعم الكافي في ملف ناغورنو كاراباخ.
وبحسب مراقبين، تسعى أرمينيا من خلال تطوير علاقاتها مع الغرب إلى ممارسة ضغوط أكبر على أذربيجان، والبحث عن حلفاء جدد، لكن الرد الروسي لم يتأخر، وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن روسيا جزء لا يتجزأ من هذه المنطقة، لذا لا يمكنها مغادرة أي مكان، ولا تستطيع روسيا مغادرة أرمينيا.
وفي تذكير بمدى ارتباط أرمينيا بروسيا، دعا بيسكوف رئيس الوزراء الأرميني إلى عدم نسيان حقيقة أن عدد الأرمن الذين يعيشون في روسيا أكبر من عددهم في أرمينيا نفسها، مضيفاً: “روسيا تواصل تأدية دور ثابت ومهم للغاية في استقرار الوضع ومنع الصراع في هذه المنطقة. وسنواصل تأدية هذا الدور”.
الغرب ينتهز الفرصة
في الرابع من أيلول الحالي، خاطب رئيس اللجنة الأوروبية لتنمية حلف شمال الأطلسي غونتر فيلينغر رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأميركي جو بايدن على شبكة “إكس” (تويتر سابقاً)، قائلاً: “أدعو أرمينيا إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي”، داعياً بايدن إلى الدفاع عن أرمينيا.
لكن وزارة الخارجية الأرمينية أوضحت في وقت لاحق أنه لم تكن هناك دعوة في حد ذاتها لانضمام البلاد إلى الحلف، ولم يكن هناك حديث عن الانضمام. وأشار نائب رئيس الإدارة فاهان كوستانيان إلى أن فيلينغر ليس ممثلاً للحلف، بل هو فقط رئيس منظمة عامة تحمل كلمة الأطلسي باسمها، وأضاف أنه في إطار الشراكة، تتعاون البلاد مع الحلف بأشكال مختلفة وهي مستعدة لمواصلة هذه العملية.
إلا أنه على الرغم من التوضيح الذي قدمته وزارة الخارجية الأرمينية، جاء الرد الروسي مباشراً وغاضباً على لسان فلاديمير غباروف، النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الاتحاد الروسي، الذي حذر أرمينيا من اتخاذ خطوات رداً على دعوة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
وبحسب البرلماني الروسي، فإن هذا لن يحسن الوضع في جنوب القوقاز ولن يساعد يريفان في المسائل الأمنية. ووصف غباروف حلف الأطلسي بأنه “هيكل عدواني ومزعزع للاستقرار تماماً، ويشارك بشكل علني في شؤون معاداة روسيا”، وطالب البرلماني الروسي من يريفان النظر إلى “ما يحدث في أوكرانيا”.
وبعيداً عن النفي الأرميني والردّ الروسي الغاضب، ربما يحاول باشينيان مجدداً التقرب من الغرب، والأرجح أن باشينيان يسعى إلى الحصول على حلفاء جدد في نزاع أرمينيا مع أذربيجان، لكن من المستبعد أن يفكر في خطوة الانضمام إلى حلف الأطلسي، فمجرد الإعلان عنها سيفجر صراعاً مع روسيا.
وعملياً، من الصعب على أرمينيا، الدولة المغلقة التي لا تطل على أي بحر، والمحاطة جغرافياً بروسيا والدول المتحالفة مع روسيا مثل إيران، والدول المعادية ليريفان مثل أذربيجان وتركيا وجورجيا، أن تخرج من دائرة النفوذ الروسي، إذ إن روسيا تمثل عامل ردع وتوازن قوى كبيراً، من دون دعمه، يمكن لأرمينيا أن تقع في مآزق عدة.
وعلى الرغم من اتفاقات السلام الموقّعة، لا تزال المنطقة معرضة بشدة لاندلاع حرب جديدة بين أرمينيا وأذربيجان، إذ رغم انتهاء حرب ناغورنو كراباخ في عام 2020 بانتصار واضح لأذربيجان، لكنه لم يضع حداً للصراع.
وهي تضغط على أرمن ناغورنو كاراباخ من أجل قبول الاندماج الكامل في نظام الدولة الأذربيجانية، مع عدم الموافقة على أي مطلب بحكم ذاتي لهم. ومثل هذه المتطلبات الصارمة لا تترك مجالاً للتسوية تقريباً، كما تعيق البحث عن الحلول الدبلوماسية، التي تشارك فيها الآن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا.
وإضافة إلى العوامل السابقة، فإن الموقف المتشدد للأذربيجانيين ينطلق من أنه بعدما استعادت أذربيجان في حربها الأخيرة السيطرة على جزء كبير من الأراضي التي فقدتها في التسعينيات، بدا أن الأرمن لم يحتلوا هذه الأراضي فحسب، بل دمروا أيضاً جميع المدن والقرى هناك بشكل منهجي، ما جعلها غير صالحة للسكن.
في المقابل، لا يمكن لأرمينيا السكوت عن الأزمة الإنسانية في ناغورنو كراباخ المعزولة عملياً عن العالم من قبل السلطات الأذربيجانية منذ كانون الأول الماضي، وتردي الأوضاع في الإقليم.
وتجدر الملاحظة أن مسار المواجهة الأرمينية الأذربيجانية لم يُحدد دائماً من خلال المبادرات الدبلوماسية، بقدر ما يُحدد من خلال استخدام القوة والتطهير العرقي كما شهدت الحروب السابقة. واليوم أصبحت الأمور أفضل قليلاً فقط من ذي قبل، وكلا الجانبين يحاول تفادي حرب جديدة.
ومن الواضح أن باشينيان أو غيره ممن يمكن أن يتسلم رئاسة الحكومة لا يستطيع تقديم تنازلات أكبر، وسيكون مضطراً إلى الانسحاب من جميع الاتفاقيات السابقة على الرغم من اختلال موازين القوى لصالح أذربيجان. بالتالي قد تتحوّل الجهود الدولية من محاولة الوصول إلى معاهدة سلام دائمة، بعد ثلاث سنوات من الحرب الثانية في جنوب القوقاز منذ انهيار الاتحاد السوفييتي أداء دور رجل الإطفاء لوقف حرب جديدة قد تكون “تحريكية” أو “انتحارية” لباشينيان غير القادر على تقديم تنازلات إضافية.