إلى عمق التاريخ.. إلى طريق الحرير.. العلاقات السورية –الصينية ليست محطة آنية.. الرهان ارتكز على تقاطع عاملي المصلحة والأيديولوجيا ونمط الخيارات الفكرية
علي اليوسف- أمين تحرير الشؤون السياسية
ثمّة أبعادٌ عديدة في منطق العلاقات الإستراتيجية، لكن ما يعوّل عليه -كي تكون واعدة- هو الهدف المستقبلي، والأساس التاريخي. ومن هذين المحورين كانت زيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى جمهورية الصين الشعبية التي استقبلت ضيفها بحفاوة كبيرة شاهدها العالم أجمع، وزادتها عبارات الترحيب في الكلمتين المتبادلتين بين الرئيسين الأسد ونظيره الصيني شي جين بينغ، لتكون أبلغ تعبير عن الأبعاد الاستراتيجية الكبرى لهذه الزيارة.
هذه الزيارة الإستراتيجية ليست محطة آنية في تاريخ العلاقات السورية -الصينية، فالعلاقات بين البلدين تعود إلى عمق التاريخ، إلى عمق طريق الحرير، لتنتقل بعدها منذ 67 عاماً إلى علاقات دبلوماسية تُدشّن تلك العلاقات على مستوى الحكومتين وبشكل رسمي عام 1956، وتعزّز لاحقاً في سبعينيات القرن الماضي بين حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي الصيني، حيث كان الرهان على هذه العلاقة الحزبية رهاناً أيديولوجياً من حيث نمط الخيارات الفكرية والأيديولوجية المؤطرة للبلدين، التي ارتكزت على تقاطع عاملي المصلحة والأيديولوجيا، حيث كان هذان العاملان وما زالا محدّدين أصيلين لسياسة سورية والصين الخارجية.
إذاً هي علاقات صداقة عريقة ربطت على مدى عقود بين سورية والصين، حيث تعدّ سورية من أوائل الدول العربية التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين، وهي من الدول التي طرحت مشروع قرار استعادة الصين مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة، وعلى مدى 67 عاماً من إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين صمدت علاقاتهما الثنائية أمام اختبارات تغيّرات الأوضاع الدولية، وازدادت الصداقة متانة بينهما مع مرور الوقت لتمسّكهما بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ورفضهما الهيمنة وسياسات القوة.
كذلك كانت الدبلوماسية الشعبية حاضرة، وسعي الصين لتفعيل “قوتها الناعمة” استفادت منه دمشق، فلم تتوقّف الوفود الحزبية والاقتصادية بين البلدين، كما ازداد عدد الطلاب السوريين الذين يدرسون في الجامعات الصينية على نفقة الحكومة الصينية. واللافت أن الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين كانت قليلة جداً، ويبدو أن سفارتي البلدين كانتا تفيان بالغرض لإدارة تلك العلاقات وتوثيقها.
ولكن، لم يكن من قبيل المصادفة ربما أن يقوم وزير الخارجية الصيني وانغ يي بزيارة دمشق يوم إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية في سورية في 17/7/2021، ليكون بذلك أول المهنئين للرئيس الأسد بفوزه في تلك الانتخابات. تلك الزيارة اكتسبت أهمية كبرى، ومثّلت تحوّلاً في السياسة الخارجية الصينية نحو مزاحمة الغرب في مناطق عديدة من العالم، حيث كانت أول زيارة يقوم بها مسؤول صيني كبير إلى سورية بعد الحرب الإرهابية عليها في عام 2011.
وقبلها كانت زيارة الرئيس الصيني السابق “هو جينتاو”، في عام 2001 إلى سورية، وزيارة الرئيس الأسد وعقيلته إلى العاصمة الصينية بكين في حزيران 2004 لبنة أخرى في تمتين العلاقات بين البلدين، وتعميق التعاون الثنائي بشكل ملموس.
علاقات البلدين تميّزت بتحقيق المنفعة المتبادلة، وفي هذا الإطار جاء توجّه سورية نحو الشرق متوافقاً مع المبادرة الصينية “الحزام والطريق” التي طرحها الرئيس الصيني عام 2013، والتي انضمّت إليها سورية رسمياً مطلع عام 2022، كما تؤكد الصين أهمية المشاركة بإعادة إعمار ما دمّره الإرهاب في سورية دون شروط مسبقة وتشدّد على أهمية تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين.
كذلك، كانت زيارة وفد الحزب الشيوعي الصيني برئاسة وقوان تشينغ، عضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب أمين لجنة الفحص والتفتيش المركزية إلى سورية، في نهاية تشرين الأول 2003، وكذلك زيارة وفد المجلس الوطني الاستشاري السياسي للشعب الصيني، برئاسة لي مينغ نائب رئيس المجلس، ووفد الحزب الشيوعي الصيني برئاسة هوانغ تشيندونغ، عضو اللجنة المركزية للحزب، وأمين اللجنة الحزبية لبلدية تشونغتشينغ، مثمرة، تم خلالها التوقيع مع اللجنة المركزية للحزب على اتفاقيات تعاون وتبادل الخبرات والكوادر الحزبية بين البلدين، فالحزب الشيوعي الصيني واحد من أهم القوى السياسية والشعبية في العالم، وتقدّمه نحو الأمام جاء من خلال اتباعه “المبدئية الواقعية”، حيث يتعامل مع الواقع ليس من منطلقات جامدة، وإنما كان يأخذ بعين الاعتبار ما هي القضايا الأساسية لهذا الواقع وليس القضايا الأيديولوجية أو النظرية المسبقة. ومن هنا توجد قواسم مشتركة يمكن أن تعزّز العلاقات بين الحزبين في الصين وسورية في سياق الرؤية المشتركة، كما أن سورية تدافع عن استقلالها لأنه شيء مقدس، والصين تدعم سورية بشكل دائم ليس فقط على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي، وإنما على المستوى السياسي، واليوم سورية بحاجة للتعاون مع الصين في جميع المجالات، وخاصة بعد التدمير الممنهج الذي طال المجالات التكنولوجية، إضافة إلى الإعمار بجميع جوانبه.
وبين ما تشكّله سورية من أهمية جيوسياسية واقتصادية للصين، وما تمثّله سياسة الصين الثابتة من رفض للتدخّل في الشؤون الداخلية للدول، وتحقيق العدالة وإرجاع الحقوق، استطاعت بكين أن تضع ملامح سياستها الخارجية تجاه سورية بانسجام تام بين تحقيق مصالحها الوطنية، والدفاع عن المبادئ التي تؤمن بها والتي شكّلت هوية خاصة للسياسة الصينية.
في المقابل، أدركت القيادة السورية منذ وقت مبكر حجم وقوة الصين العالمي، ودورها المهم في تغيير النظام الدولي في العالم، فزيارة السيد الرئيس تشكّل خطوة جادة وجديدة يمكنها التعامل بقوة مع الديناميكيات السياسية المتغيّرة في السياسة والاقتصاد والتبادل التجاري، وهذا ما يبشّر ببدء مرحلة متجدّدة تتطلع سورية من خلالها إلى الصين في تطوير بنية الاقتصاد السوري، ومحاولة الخروج من المآزق الصعبة، وخاصة بعد العقوبات الأمريكية والغربية الأوروبية الجائرة على الشعب السوري.
تشكّل زيارة الرئيس الأسد إلى جمهورية الصين الشعبية حالة جديدة من تطوّر العلاقات الرفيعة المستوى بين البلدين، لأنها أتت في مجرى التطوّر المتسارع للأحداث العالمية، وضمن جدول أعمال تقوية بناء الجسور بين البلدين، والاستمرار في الوقوف في وجه القوى الأطلسية، والتحولات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، ولا يزال الصراع محتدماً حول من سيقود النظام العالمي من خلال الضغوط الاقتصادية والسياسية والحروب المدمّرة الدامية، وبروز قوى جديدة تتقدّم بسرعة لأخذ موقعها الذي تستحق في هذا النظام العالمي، وتراجع قوى ودول أخرى.
بشكل هادئ ومتوازن يتصاعد الدور الصيني على مستوى العالم، الدور الذي قال عنه الرئيس بشار الأسد: (يجب أن نواجه القوة العسكرية بمبدأ القوة الناعمة المبنية على الأخلاق والتعاون الذي أقرته الصين)، وهي جميعها أركان لبناء مجتمعات صحيّة تنعم بالاستقرار والسلام، والربح للجميع هو أساس العدالة، وهنا مكمن العلاقات الدولية السليمة، وعلى هذا تقوم العلاقات السورية الصينية، وهي خطوات واضحة تقوم بها الصين لتوسيع دورها وحضورها في الشرق الأوسط، ضمن تحرك لا يضع باعتباره أي تحليلات غربية، بل على العكس يتعمّد إرسال رسائل إلى الإدارة الأميركية عن انتهاء زمن المراعاة السياسية التي انتهجها الصينيون خلال سنوات مضت في تعاملهم مع الإدارات الأمريكية، بينما بحث ويبحث السوريون في كل لقاء مع أصدقائهم الصينيين، وعلى أعلى المستويات، التصوّرات المشتركة لقادم العلاقة الثنائية ضمن المشهد الأكبر، ودور الصين الحيوي في المنطقة والعالم.
ومع أن الصين لم تُعر اهتمامها الأول للسباق العسكري مع الغرب، إلا أن قوتها العسكرية الآن باتت تشكّل قلقاً لأمريكا ولحلف الناتو الذي يختبر بين الحين والآخر صبر الصين على استفزازات الغرب، لذلك تشكل زيارة الرئيس الأسد إلى الصين نقطة فارقة في صياغة توازنات القوى الدولية في منطقة الشرق الأوسط، بل ربما في العالم، لجهة تحدّي الإملاءات الأميركية، والمضي قدماً في تطوير علاقات بكين مع الدول التي أرادت لها الولايات المتحدة أن تكون معزولة عن العالم، وتأتي في مقدمة هذه الدول سورية التي تعدّ رصيداً استراتيجياً للصين، لا من حيث ثرواتها الطبيعية فقط، بل من زاوية ثقلها الجيوسياسي على صعيد الموقع الجغرافي والمكانة الحضارية، والدور الذي تؤدّيه في معادلات السياسة الشرق أوسطية.
إن الموقف الصيني من الحرب على سورية كان موقفاً مبدئياً منسجماً مع مبادئ السياسة الخارجية الصينية وتوجّهاتها المتمثلة في رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، لذا سعت بكين إلى العمل على وقف الحرب في سورية، وطرح العديد من المبادرات التي تهدف إلى إيجاد مخرج للصراع الدائر فيها.
وقد استند موقف الصين من الحرب على سورية، إضافة إلى اعتبارات المصلحة والأيديولوجيا، إلى اعتبار سعي الصين لحفظ وتعزيز نفوذها في معادلة توازنات القوى الدولية في منطقة الشرق الأوسط، فبكين باتت أحد الأقطاب الرئيسة في العالم، وما التطور في السياسة الخارجية الصينية تجاه سورية إلا انعكاس لتصاعد مكانة الصين وقوتها.
إن استقبال الرئيس السوري في بكين سيشكّل قفزة نوعية في العلاقات بين البلدين، وعلامة فارقة في الموقف الصيني الذي يهدف للانتقال إلى نظام دولي أكثر عدلاً، حيث إن هناك مجالاتٍ كثيرة للتعاون بين البلدين ستحقق نتائج مهمة لكلا البلدين، لكن ذلك التعاون لن يكون مرحّباً به من أعداء سورية، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية التي تمارس النهب اليومي للنفط السوري من الآبار التي تحتلها، لكن من الواضح أن الصين باتت اليوم أكثر قوة لإظهار موقعها في النظام العالمي، وخاصة بعد تصاعد التوترات بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يشكّل فرصة أمام سورية لتطوير علاقاتها مع بكين.
إذاً هي “قفزة جديدة” في تاريخ العلاقات بين البلدين، فالوضع الدولي تغيّر كثيراً ودور الصين أصبح بارزاً على مختلف المستويات سواء من خلال الدعم الذي تقدّمه الصين لسورية، أم من خلال الدعم الذي تقدّمه سورية للصين إيماناً منها بـ”صين واحدة” أولاً، وثانياً من خلال دعمها لكل المبادرات التي تقدّم بها الرئيس جين بينغ خلال السنوات الماضية.
فالصين تقوم بدور هائل لمصلحة البشرية وتقدّمت بالكثير من المبادرات في هذه المجالات لم تكن أولها مبادرة الحزام والطريق، وإنما كانت هناك مبادرات تتعلق بالأمن الدولي والحضارة الإنسانية وبالنمو الاقتصادي. لذلك كان للزيارة ثقل زماني ومكاني، وهي مهمّة بتوقيتها وظروفها، كما أكد الرئيس الصيني، بعد التوقيع على اتفاقية “التعاون الاستراتيجي السوري –الصيني”، يوم الجمعة 22 أيلول 2023 في مدنية خانجو، أن هناك “حدثاً مفصلياً مهمّاً في تاريخ العلاقات الثنائية في وجه الأوضاع الدولية غير المستقرة”.
هذه الاتفاقية لا تمثل بكلماتها مجرّد توقيع على اتفاقية، بل هي مسار تاريخٍ بُني عبر سنوات على أسس متينة من الثقة المتبادلة، والدعم غير المشروط في القضايا العادلة للبلدين، لتكون أنموذجاً للعلاقات الدولية، ولتضع اليوم حجر أساس جديداً في الطريق لمستقبل واعد بتنمية الشعوب بأيدي أبنائها، واستثمار خيراتها لمصلحة ازدهارها، بعيداً عن الاستغلال الغربي والسرقة الممنهجة، والسطو الاقتصادي العالمي، الذي تمارسه أمريكا وأوروبا، اللتان لم تعُد سياساتهما الإرهابية الاقتصادية خافية على أحد.