مي زيادة.. فراشة الأدب أحبت بالمراسلة واتهمت بالجنون
حين اختصرت الأديبة المصرية مي زيادة مسيرة حياتها قالت: “أنا امرَأة قَضيتُ حَياتي بَين قَلمي وأدواتي وكُتبي ودِراساتي، وقد انصَرفتُ بِكل تَفكيري إلى المَثل الأعلى، وهذه الحَياة المِثالية التي حييتُها جَعلتني أجهَلُ ما في البَشر مِن دَسائِس”، لم يأت هذا الكلام لزيادة عن عبث، بل كان خلاصة حياة درامية عاشتها، كانت خاتمتها أن توصف بالمجنونة وتوضع في مشفى الأمراض العقلية، لذلك لم تمر سيرتها وإن تكررت كثيراً مرور الكرام على كل من سمعها مؤخراً في ندوة أقيمت في المركز الثقافي أبو رمانة بإشراف عمار بقلة مدير المركز، وبمشاركة الباحثين مازن ستوت وعصام النوري، اللذين جالا في هذه السيرة التي تتضمن كل مفارقات الحياة من حب وكره وفرح وحزن وشهرة وعزلة وعقل وجنون وقرب وبعد، وقد أجمع الباحثان على أنها ظاهرة أدبية اجتماعية ألهمت الكثيرين، فكانت قامة أدبية ترتقي إلى مستوى قامات كبار رجال الفكر في عصرها وإحدى الشخصيات التي برزت في تاريخ الأدب العربي وفي مجال الصحافة ودورها البارز في نهضة المرأة العربية في زمنها، إلى جانب مواقفها الشجاعة ضد السياسات الاستعمارية.
فن المراسلة
أشار أ.مازن ستوت في مشاركته إلى مي زيادة الأديبة والروائية وأهم الداعيات إلى كتابة الشعر والتي عُرِفت بتهذيبها الرفيع وثقافتها الواسعة وهي التي كانت تجيد تسع لغات والمولودة في مدينة الناصرة بلبنان من أب لبناني وأم فلسطينية من أصل سوري والتي اهتمت بدراسة اللغة العربية واللغات الأخرى، إضافةً إلى اهتمامها بالفن والرسم والغناء والموسيقا وكيف بعد تخرجها من مدرسة الراهبات عام 1904 انتقلت مع عائلتها إلى القاهرة ودرست في جامعتها ومن ثم أبدعت في مجال الصحافة، فكانت تكتب المقالات الاجتماعية في الصحافة المصرية بأسلوب مليء بالعاطفة والمشاعر، موضحاً أنها نشرت العديد من الكتب تأليفاً وترجمةً وكان أول ديوان شعري لها بالفرنسية “أزاهير الحلم” وأصدرت بالعربية “باحثة البادية” “كلمات وإشارات” “المساواة” و”ظلمات أشعة” في حين ترجمت ثلاث روايات، منها: “ابتسامات ودموع” وكانت لها بصمة في فن المراسلة شكلاً ومضموناً حيث طورت هذا الفن برأي ستوت من خلال الأسئلة الوجودية والوصف البارع لتحولات الطبيعة، والنجوى الداخلية ونقد الكتب والحديث عن حقوق المرأة، وكان أسلوبها يقوم على دقة العبارة والتكيف والطرافة والطلاوة والوضوح وحسن الانتقال إلى الفكرة الرئيسية وبراعة المحاورة فجعلت من الرسالة محوراً فكرياً لا علاقة له بالعاطفة، بل كانت تصب في رسائلها ثقافتها العامة والواسعة وقلبها وعقلها مع الاطلاع الكافٍي على الموضوع المعني واحترام التخاطب والموضوعية والإيجاز، منوهاً ستوت إلى أن زيادة راسلت أعلام عصرها من سياسيين ومفكرين وصحفيين وشعراء وكتّاب في سورية ولبنان ومصر وفي مقدمتهم جبران خليل جبران وقد تأثرت بأسلوبه، كما كتبت إلى عباس محمود العقاد بعد قراءتها لكتابه “الفصول” الذي أهداه إليها، ووقفت عند الفصل الذي انتقد فيه كتاب جبران “المواكب” كاشفاً فيه أخطاء حيث آلمتها قسوته في وصف جبران، فكتبت تقول: “لاحظت قسوتك على جبران وأوافقك على بعض ما قلتَ، وأُعارضك في بعضه الآخر” ورأى ستوت أن أهم ما يميز الأسلوب الأدبي لزيادة أنها لم تعتمد على تقليد أشخاص ولم تتّبع هوى المدارس الفنية التي تعنى بالأدب، فكان أسلوبها نابعاً منها ويتصف بالجزالة والنضج والبساطة والعفوية والإبداع والسرد التشويقي في عرض أفكارها والعرض المنطقي لما تطرحه والانتقال بين الأفكار بطرق مختلفة وإيراد الحكمة في نهاية النص الأدبي واستحضار الوجدانيات بأسلوب غامض وألفاظ روحية مما دعا أحد أساتذة جامعة هامبورغ” الألمانية للقول: “المرء يجد في كتابتها توازنَ الانكليزية وودعاتها، ودقة الألمانية وإحكامها، ورشاقة الفرنسية وحيوية باقي اللغات اللاتينية” فكانت تجيد الإقناع”.
صالون وحب الصوفي
وتوقف أ.عصام النوري عند صالونها الأدبي الذي اجتذبت فيه أدباء وفلاسفة ومفكرين وعلماء، واجتمع فيه عمالقة كبار في كل المجالات كطه حسين، مصطفى صادق الرافعي، عباس محمود العقاد وأحمد شوقي، وفيه ولَدت معارك أدبية وفلسفية واجتماعية وفكرية، وقد وَصَف د.طه حسين صالونها قائلًا: “كانَ صالوناً ديمقراطياً مفتوحاً، وقد ظَللت أتردد عَليه أيّام الثلاثاء إلى أن سافرتُ إلى أوروبا لِمُتابعة الدِّراسة، وأعجَبني مِنهُ اتِّساعَه لِمذاهب القَول وأشتاتِ الكلام وفُنون الأدب، وأعجَبَني مِنهُ أنّه مَكان لِلحديثِ بِكل لسان، ومُنتدى لِلكلام في كُل عِلم” كما تحدّث النوري عن علاقة زيادة بجبران خليل جبران وكيف كانت وفاته أكبر صدمة لها في حياتها، مشيراً إلى الحب الذي نشأ بينهما وهو حب فريد لا مثيل له في تاريخ الأدب أو سير العشاق، وقد دام بينهما عشرين عاماً دون أن يلتقيا إلا في عالم الفكر والروح، فجبران كان في مغارب الأرض مقيماً، وكانت مي في مشارقها، ومع ذلك فقد كانا أقرب قريبين وأشرف حبيبين، وأن الرسائل المخطوطة المتبادلة بينهما تكشف ذلك وهي رسائل كتبت ما بين عام ١٩١٤ إلى عام ١٩٢١ مبيناً أن الحب بينهما نشأ ونما عبر مراسلة أدبية طريفة ومساجلات فكرية وروحية ألّفت بين قلبيهما وروحهما، وكان عشقاً صوفياً لأنه تخطى حدود الزمان والمكان والحواس إلى عالم تتحد فيه قوة الوجود، فكان مثالاً نادراً للحب المتجرد عن كل ما هو مادي، موضحاً أن زيادة كانت معجبة بمقالاته، فبدأت بمراسلته عقب اطلاعها على قصته “الأجنحة المتكسرة” عام ١٩١٢ فكتبت له تعرب عن إعجابها بفكره وأسلوبه، وناقشت آراءه في الزواج وقيوده، وشيئاً فشيئاً توثقت علاقتهما وتدرجت من الإعجاب إلى صداقة حميمة ومن ثم إلى حب تخللته سلسلة من الخلافات ولكن شدة ولع كل منها بالآخر كانت تدفعهما إلى التصالح مجدداً.
المثل الأعلى
لُقِّبَت بفراشة الأدب وقال عنها أمير الشعراء أحمد شوقي:
إذا نطقتُ صبا عقلي إليها وإن بسمتْ إلى صبا جناني
ولدت في لبنان وعاشت في مصر وبَعد أن تُوفي والِدها في عام 1929 ثمَّ والدَتها فحبيبها جُبران خليل جبران عادَت إلى لبنان 1938 حَيثُ أساءَ أقارُبها مُعاملتها، وتَم إدخالها مَشفى لِلأمراض العَقلية للاستيلاء على ممتلكاتها، وبَعد أن خَرجت مِنه أقامَت عِند الأديب والمُفكّر الُّلبناني أمين الريحاني، ثم عادَت إلى مصر وزارت العَديد مِن البُلدان الأوروبيّة لِلتخفيف عَن نَفسِها واستقرت في مصر التي تُوفيت فيها عام 1941 في مَدينة القاهرة وفي تأبينها قالت هُدى شعراوي: “مي زيادة كانت المثل الأعلى للفتاة الشرقية الراقية المثقفة”.
أمينة عباس