دراساتصحيفة البعث

بوادر انفراط العقد الأوروبي

ريا خوري

لم تتوقف المملكة المتحدة عن الدعوة لتوسيع الاتحاد الأوروبي الهادفة لضم دول وسط وشرق أوروبا، فقد كانت من أشد المتحمسين في بداية تشكل الاتحاد الأوروبي لانضمام العديد من الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي السابق. والآن نجد أنّ أحد مبرراتها للخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) كانت تلك التوسعة التي سعت لتحقيقها وتسريعها. تلك السياسية التي تنتهجها بريطانية تؤكد حالة التخبط وفقدان البوصلة الاستراتيجية في سياساتها العامة، ولا يمكننا اعتبار تلك السياسة بأنها سياسة براغماتية بل سياسة التردد والتخبط .

في هذا السياق يمكننا  التأكيد على وجود العديد من الفوارق بين دول شرق أوروبا وغربها، والتي لم تتمكن على الرغم من السنوات الطويلة من دخول تلك الدول في الاتحاد الأوروبي أن تذيبها وتدمجها، إلا أنّ أوروبا الغربية التي تمثل نواة الاتحاد الأوروبي، لم يعد كما يُقال : “على قلبٍ واحد” كما يفترض أن تؤدي الوحدة الأوروبية بعد أكثر من خمسين عاماً. تم تمثيل عقد الاتحاد الأوروبي الذي انضمت بقية دوله في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ومعها المملكة المتحدة قبل الــ (بريكست) ، لكن هذا العقد العالمي الجديد يشهد اليوم “شبه انفراط”

برزت بوادر هذا التفكك حتى قبل استفتاء بريطانيا على الخروج  من الاتحاد في عام 2016، حيث يظهر ذلك واضحاً في الأزمات، فقبل عدة سنوات حين شهدت بعض دول الاتحاد الغربية مثل اليونان واسبانيا أزمات مديونية وعجز ميزانية عامة، كان موقف فرنسا وألمانيا متشدداً جداً بشأن تطبيق قواعد السلامة المالية الأوروبية، من دون التنبه للتبعات السياسية والاجتماعية  في الدول التي ترزح تحت وطأة الدين.

لقد كان لجائحة كوفيد 19 قبل أكثر من ثلاثة أعوام  تأثير سلبي  شديد الوضوح على أن ذلك التضامن الأوروبي الذي انفرط عقده تقريباً، فقد عانت العديد من الدول من خطر تلك الجائحة بخاصة إيطاليا التي اعتبرت أسوأ موجة للوباء وراح مئات الآلاف من الإيطاليين ضحايا لفيروس (كورونا)، ولم تلق دعواتها وصرخات استغاثتها المتتالية آذاناً أوروبية صاغية، فقد انشغلت كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي بهمها الداخلي ولم تهتم بغيرها من دول الاتحاد .

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن بعض دول الاتحاد الأوروبي صارت (تخطف) أجهزة الوقاية ومعداتها من أجهزة تنفس صناعي وكمامات وقفازات مشحونة لغيرها، وحدثت عمليات سطو كبيرة على شحنات قادمة من الصين، بعضها كانت مساعدات تم تقديمها كمحاولة لإنقاذ الوضع القائم وليست تعاقدات تجارية. وفي حالات أخرى زايدت دول أوروبية على شقيقاتها من دول الاتحاد في السعر لتحصل على شحنة ربما كان غيرها أكثر حاجة إليها بسب انتشار الفيروس بشكل أسرع.

في الوقت الحالي نشهد نموذجاً صارخاً جديداً، شرق أوروبا، على حالة التفكك والانفراط الأوروبي ، فمنذ تعليق روسيا العمل باتفاقية الحبوب في البحر الأسود، بدأت أوكرانيا تبحث عن طريقة لتصدير إنتاجها الزراعي. ومن بين المنافذ والطرق الممكنة تصدير الحبوب والانتاج الزراعي إلى الدول المجاورة، حيث يمكن نقلها براً بالقطارات والشاحنات أو عبر الأنهار، لتتمكن من تصديرها من دول الجوار إلى الدول المستهلكة.

وهناك حظر سابق فرضته العديد من دول الجوار الأوكراني، من الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل المجر وبولندا و بلغاريا وسلوفاكيا، على واردات الحبوب والمنتجات الزراعية من أوكرانيا التي ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، وذلك لحماية المزارعين المحليين وما ينتجونه من حبوب من إغراق المنتجات الأوكرانية، وبالتالي تكبد القطاع الزراعي خسائر كبيرة غير مسبوقة.

لقد تحركت بعض الدول الأوروبية في اتجاه آخر فقد اتخذت بروكسل (عاصمة الاتحاد الأوروبي) قراراً صريحاً وواضخاً بتعليق الحظر مؤقتاً وهذا من شأنه أن يسمح لأوكرانيا بتصدير المنتجات الزراعية والحبوب عبر دول الجوار، إلّا أن تلك الدول رفضت القبول والانصياع للقرار الأوروبي وقررت الاستمرار في الحظر تماشياً مع قرارات وإملاءات الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها، وقدمت مصالح مواطنيها من المزارعين  الذين ينتجون الحبوب على وجه الخصوص على الدعم والتآخي والمساندة مع أوكرانيا التي تشهد حرباً ساخنة منذ أكثر من عام.

لقد تحمّست العديد من الدول في اتخاذ قرارات جديدة ، فقد كان من بين تلك الدول من هو أكثر تشجيعاً لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، حتى من الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. ونذكر هنا على وجه التحديد بولندا التي طالما فعلت مثل المملكة المتحدة في المزايدة على الأمريكيين ليس فقط في التصريحات السياسية ضد روسيا وقيادتها، وإنما أيضاً في تقديم العون العسكري لأوكرانيا .