هذا الرجل!
لا أصدّقُ أنّ العجب يأخذني منذ عشرين سنة، وحتى الآن، فيهزّ مشاعري ويستفزّها، ذلك لأنّ بعض المثقّفين، ولهم الاحترام كلّه، يواصلون الكتابة ضد إدوارد سعيد، وبمناسبة رحيله من كلّ عام (25 أيلول 2003)، حتى ليحسبهم المرء أهل اختصاص في رمي الرجل بالكلام الرّجيم، والوقوف في مربع أعدائه لتشويه صورته، وتقويض ما قاله، وتشنيع ما بدا من سلوكه، والحطّ من غاياته وأحلامه، ومحاكمة صراحته ووضوحه كما لو أنهما شناءة، فمن هو إدوارد سعيد؟ هذا الرجل الذي يلفّه، سنوياً، كلامٌ لا قامة له، ولا وجه، ولا بيان، ولا بديع، ولا سحر!
الرجل ابن بيت ثقافي، أبوه درس العلوم والمعارف في الولايات المتحدة الأمريكية، في وقت ما كان بمقدور الخلق أن يسافروا من بلدة إلى أخرى، أو من مدينة إلى أخرى، وهو مقدسي عرف تنوّع الثقافات في مدينة حجيج عالمية. درس إدوارد في الإسكندرية والقاهرة بعد خروج أسرته من القدس بسبب شائنات الانكليز وعصابات الصهاينة، ثم مضى ليدرس في أهم الجامعات الأمريكية، ثم درَّس فيها وهو ابن ثلاثين سنة، ألّف ونشر الكتب التي أحدثت دويّاً في العالم الغربي، ونقلت إلى أكثر من 30 لغة عالمية، صادق وراسل وحاور أهم أصحاب العقول والفكر في العالم، وحاضر في أهم الجامعات ودور الثقافة والصالونات العالمية، وكان من يودّ الاستماع إليه يدفع ثمن بطاقة الدخول إلى القاعة التي يحاضر فيها، وكأنه يدخل إلى حفلة أوبرا، أو حفلة موسيقية، وكانت الأحاديث موارةً ولا تنتهي بعد الذي يقوله، في الصحف والمجلات وشاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي. نشر كتابه (الاستشراق) في السبعينيات من القرن العشرين، فكان الكتاب الأهم الذي بدا أشبه بالمرآة التي واقفها أهل الغرب ليروا صورتهم في مرايا الآخرين، وهي صورة راعبة، لها شناءة واضحة، وقباحة لا يمكن سترها أو تجميلها، فهب برنارد لويس (1916-2018 ) ومنتغمري واط (1909 – 2006) لتقويض أفكار الكتاب، لكن حججهما ظلّت حججاً باهتة، ضامرة، شاحبة، لا أساس لها، ثم أردفه بكتاب (الثقافة والإمبريالية)، فكان الطلقة الأخيرة التي كشفت المستور من ثقافة الاستعمار الغربي التي تبعت قولة زائفة، فيها من الكذب والبهتان والتغرير والاستدارة الكثير، وهي أنّ استعمار الغرب للشعوب، والجغرافية، والأزمنة.. كان للتطوير والتنمية، لذلك ردّ عليهم إدوارد سعيد، بقوله: لقد وظّفتم كلّ شيء، الآداب والفنون والتاريخ والجغرافية والفلسفة من أجل استعمار الآخرين وسرقتهم واستعبادهم بالقوة، وقدّم الأدلة والقرائن والوثائق، وعدّد، وبالأرقام، ما قتلوا، وما اقترفوا من مجازر، وما سحقوا من كرامات، وما محوا من لغات وتقاليد وعادات وأعراف! وحين نشر كتابه (العالم والنص) جعل أهم أعناق نقّاد العالم تلتفت إليه لتعرف هذا الجديد الذي كتبه حول النصوص، والآداب، والفنون، والتراث، واستيلاده لعلم جديد اسمه: علم النص!
وهذا الرجل، إدوارد سعيد، لم ينشر، ويفاخر بأنه غربي.. لا في الثقافة، ولا في السلوك، وكان بمقدوره أن يفعل ذلك، ولا تثريب، بل كتب كتاباً آخر هو (خارج المكان) صرخ فيه صرخةً ملأت صفحاتِهِ بانتباهات جليلة، فحواها أنه مقدسي، من القدس عاصمة البلاد الفلسطينية التي يحتلّها الإسرائيليون، القدس التي حولوها إلى ثكنة عسكرية، هواؤها بارود، وشوارعها ميادين سباق لدوريات الجنود وعربات الجيب العسكرية، شوارع تتناهبها الحواجز، مثلما يتناهبها النهر والصّياح والقهر، مدينة.. بوابات دور عبادتها وأدراجها محروسة بالأسلحة والبغال، لا بالشموع والأنوار والرجاءات، وقال الكتاب إنّ بيت أسرته تسكنه امرأة إسرائيلية لم تمكّنه من الدخول إليه، وأنه بكى عند بوابته على الرغم من حرصه الشديد على عقلنة مشاعره، ومما لا يمكن القفز عنه في هذه السيرة لأسرة إدوارد سعيد في القدس هو أنها مثال لكلّ الأسر الفلسطينية التي عانت من ويلات الاحتلالين الإنكليزي والإسرائيلي وشرورهما؛ فثقافة اللصوصية والاستعلاء والنهب والإخافة والترهيب هي هي منذ عام 1917 وحتى اليوم، وأهمية سيرة أسرة إدوارد سعيد تتمثّل في أنها تشير إلى حال الرفاه والطمأنينة، والسلام ، وحال المدارس، ودور العبادة، وقاعات الثقافة والموسيقى، وصالات الفنون التشكيلية، والمدنية الفلسطينية البادية في العلوم والمعرفة والسلوك الحضاري.
وإدوارد سعيد، كان، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، الأكاديمي الأول، والمنتج الثقافي الأول، وصاحب المؤلفات المنتظرة عالمياً، وقد هُدّد مرّات ومرّات، كي يكفّ عن آرائه حول ما يقترفه الصهاينة في وطنه الفلسطيني من ممارسات قبيحة لا تليق بالإنسان، ولا بالحضارة، ولا بالأعراف، ولا بالقيم، ولكنه بقي الفلسطيني العاشق لوطنه، ولبيته، وتاريخه، والمؤمن يقيناً بعودة الأراضي الفلسطينية لأصحابها، وأنّ مخلفات الاحتلال الإسرائيلي ستزول، وفي مقدمتها :المنافي، والسجون، والمجازر، والمقابر الرقمية، والظلموت الذي طال كلّ شيء حتى خلايا النحل الطينية في أودية الجليل..وأريحا.
هذا هو إدوارد سعيد، الذي تحتفي بذكرى وفاته جامعات عالمية عدّة، في حين أنّ بعض أصحاب الشطط وفي ذكرى رحيله أيضاً، يرمونه، هنا، بالكلام الرّجيم لغايات طعومها مُرّة.. وأكثر!
حسن حميد
Hasanhamid55@yahoo.com