سورية وإمبراطورية السماء
هيفاء علي
لا يمكن أن يقع حدث عظيم بحجم الزيارة التاريخية للرئيس الأسد إلى الصين دون أن يحظى باهتمام وسائل الإعلام العالمية، وكبار المحللين السياسيين العرب والأجانب. والدبلوماسي الفرنسي المخضرم، ميشيل ريمبو، هو أحد هؤلاء، حيث قدّم وجهة نظره الخاصة بهذا الحدث، موضحاً أن الترحيب الكبير الذي استقبل به القادة الصينيون، وعلى رأسهم شي جين بينغ، الرئيس بشار الأسد، برفقة السيدة الأولى أسماء الأسد، ترك انطباعاً قوياً بروعته ودفئه ورمزيته ومحتواه الانتقائي.
في هذه المملكة الوسطى حيث التاريخ ليس كلمة فارغة، من الضرورة بمكان التركيز على الأهمية السياسية والاستراتيجية والجيوسياسية التي يعلقها العالم على بلد ذي حضارة قديمة سيكون دوره حاسماً في المواجهة التي لا ترحم بين الكتلة الأوراسية التي تقود الجنوب العالمي من جهة، والمعسكر الأمريكي- الناتو الذي يجسّد الغرب الجماعي من جهة أخرى.
وأضاف ريمبو أنه تمّ استخدام عبارات في البيان المشترك والتصريحات الصادرة عن الجانبين، والتي تقضي على أمل الغرب في أن يتمكّن من استبعاد وجود أو مجرد احتمال بسيط لعلاقات لاحقة بين البلدين: على سبيل المثال، الإعلان عن إنشاء “شراكة استراتيجية” بين الصين وسورية، حيث أكد البيان المشترك أن الجانب الصيني سيواصل تقديم كلّ المساعدات الممكنة لسورية ودعم جهود إعادة الإعمار والتعافي، مؤكداً من جديد مبدأ السيادة السورية، ومشدداً على ضرورة إعادة الإعمار، ومطالباً بإنهاء العقوبات وجميع التدابير الاقتصادية والمالية القسرية غير القانونية القاتلة التي تتعارض مع القانون الدولي، وتكاد تكون ذات طبيعة إبادة جماعية.
وعاد ريمبو في التاريخ إلى الوراء وتحديداً إلى فترة الخمسينيات عندما احتجت سورية الغاضبة من الفريق الثلاثي الفرنسي الأنغلو إسرائيلي، في الأول من آب عام 1956 بطريقتها الخاصة: فقد اعترفت بجمهورية الصين الشعبية، بعد شهرين من اعتراف مصر، وبحلول أواخر الستينيات، كانت سورية والصين قد أقامتا بالفعل علاقات عسكرية رفيعة المستوى، وزوّدت بكين دمشق بالأسلحة. وبعيداً عن تقلبات تاريخ الشرق الأوسط، والحرب الباردة، والنزاع السوفييتي الصيني، فإن التجارة الثنائية سوف تتطور تدريجياً. ومع ذلك، في عام 2010، عشية اندلاع ما سُمّي “بالربيع العربي” المزعج، أصبحت الصين المورد الرئيسي لسورية، وللفت انتباه المحللين وضعفاء الدعاية الغربية، يؤكد الكاتب أن الصين ساهمت بالفعل في كسر العزلة عن سورية، وأنها رفضت بشكل ثابت أي شكل من أشكال التدخل، وعارضت كلّ محاولات “نزع سلاح” الدولة السورية والإطاحة بحكومتها.
ومن ثم قدّم ريمبو سرداً موجزاً لحكاية بسيطة تظهر مدى استجابة الإمبراطورية السماوية للقضية السورية: في ربيع عام 2011، تحدث صحفي باريسي ذو علاقات جيدة مع دبلوماسي صيني مقيم في باريس حول تدخل الناتو ضد ليبيا، وسوء استخدام مجلس الأمن لغياب حق النقض من جانب موسكو وبكين. وفي معرض إثارة محاوره حول موقف الصين المستقبلي في مواجهة المشروع الذي كان يلوح في الأفق بالفعل لتدخل مسلح جديد في سورية، وجّه رداً لاذعاً قائلاً: “أنت تعتبرنا أغبياء، لن يكون هناك أبداً قرار على النمط الليبي”. وبعد مرور بعض الوقت، كان من شأن الفيتو الروسي الصيني، وهو الأول في سلسلة طويلة، أن يعرقل الطريق أمام أي عملية تحت غطاء الأمم المتحدة.
استخدمت الصين حق النقض “الفيتو” عدة مرات ضد التدخل العسكري في سورية، على الرغم من أنها استخدمت هذا الحق بشكل مقتصد للغاية، فمنذ دخولها إلى مجلس الأمن، بقرار من الجمعية العامة في 25 تشرين الأول 1971، تمّ تسجيل ثلاث مرات حق النقض فيما يتعلق بالشؤون الصينية، مقابل اثني عشر أو ثلاثة عشر صوتوا بالتنسيق مع روسيا، من أجل منع الأمم المتحدة من القيام بأي عمل عسكري ضد سورية. مع ملاحظة أنه حتى التعاون الإنساني، أو حتى المساعدات العسكرية غير الاستفزازية لواشنطن، سوف يشعر الصينيون بالقلق -وهم محقون في ذلك- بشأن تجنيد الأويغور في “حركة مقاومة تركستان الشرقية” (شين تشيانغ) بقيادة تركيا. بينما شكّل المرتزقة الموجودون في سورية مع عائلاتهم على الهامش مجموعة سكانية بديلة في شمال البلاد التي يسيطر عليها الإرهابيون، بمعنى أنه جرت عملية تغيير ديموغرافي ممنهجة في المنطقة.
وبعد انتصارها عسكرياً وسياسياً، تعاني سورية بشعبها بالكامل من ويلات الحصار الغربي، ومن سلسلة العقوبات الكيدية الجائرة من جانب الولايات المتحدة والأوروبيين. وأضاف ريمبو من جهة أخرى كيف دخلت الصين بقوة على كافة الجبهات الدبلوماسية والصراعية في غرب آسيا والشرق الأوسط، أفغانستان، إيران والسعودية، العراق، وسورية ولبنان، إلى مواجهة “محور” أوباما الذي تفضّله النخب المشروطة في الغرب الجماعي، فضلاً عن الوجود الاقتصادي المتنامي للصينيين في أفريقيا. وفي حين تعرض الصين بوضوح طموحاتها لاستعادة طرق الحرير القديمة من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، و”مشروع القرن” الذي يهدف إلى التوسع الموجّه نحو الغرب، فقد قامت بتسريع الحركة نحو الشرق، ونحو أوراسيا مركز ثقل السياسة العالمية، موضحاً أنه بين موسكو وبكين تطورت شراكة وثيقة، الأمر الذي فتح الطريق أمام مساءلة جديدة وقوية للنظام العالمي الذي فُرض منذ قرون. وبالتالي، فإن الرغبة في إعادة البناء لها أهمية خاصة على طول هذا الحزام “الأخضر” الهائل الذي يتزامن مركزه مع الفضاء السوري على مفترق طرق الحضارات، مهد الديانات الثلاث نقطة الاختلاط الوثيق بين الهويات والمعتقدات. لذلك ليس من المستغرب أن سورية وجدت الطريق إلى خلاصها إلى جانب روسيا الأبدية وإمبراطورية السماء.