قراءة في كتاب “حكام العالم الجدد” لـ جون بيلغر
إبراهيم ياسين مرهج
يتطرّق الكاتب جون بيلغر في كتابه، “حكام العالم الجدد”، إلى الوسائل التي تتبعها دول الغرب للسيطرة على دول الجنوب، ويؤكد أن الإمبريالية بحاجة إلى فزاعة “بعبع” لتواصل شنّ حروبها العدوانية، الأمر الذي يمنحها السيطرة على الموارد والثروات وطرق مواصلات الاقتصاد العالمي، وهذا “البعبع” قد يكون مجموعة دول أو بلاداً منفردة خارجة عن السيطرة المباشرة للإمبريالية، وتحاول الحفاظ على استقلالية قرارها وسيادتها الوطنية، أو قد تكون جماعات إرهابية “حسب الطلب”، ومنظمات وعصابات الجريمة المنظمة التي تُدار، كالجماعات الإرهابية من واشنطن المستفيد الأول من أعمالها الإجرامية.
وقام بيلغر بإسقاط “العمل النبوئي العظيم” أي رواية “ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين” للكاتب جورج أورويل، على العالم اليوم، وأشار إلى تشابهها مع ما قاله نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني، لتبرير حروب واشنطن غير الشرعية ضد العالم، حين قال: إن الحرب على الإرهاب “قد تدوم خمسين سنة أو أكثر”، وأسهب بيلغر في إسقاطاته حين استعار شعارات رواية “أورويل” “الحرب هي السلم، الحرية هي العبودية، والجهل هو القوة”، وقارنها بشعار اليوم وهو “الحرب على الإرهاب”.
“الحرب هي إرهاب” والسلاح الأمضى بهذه الحرب هو الإعلام “الكاذب”، حسب الكاتب، الذي اعتبر أنه يختلف شكلاً فقط عن ذاك الذي وصفه “أورويل” والمخصّص لنسيان الحقائق غير المقبولة والحسّ التاريخي، أما الاختلاف، حسب بيلغر فمسموح به ضمن حدود “الإجماع” وبما يعزّز الوهم “بحرية” الإعلام والكلام.
ويُعرّي الكاتب “الديمقراطيات الغربية” ويعتبر أن أحداث الحادي عشر من أيلول “لم تغيّر كل شيء” وإنما سرعت تتابع الأحداث، مقدمةً ذريعة “خارقة للعادة” من أجل تدمير الديمقراطية الاجتماعية، وحسب الكاتب، فإن ازدراء “ميثاق الحقوق” في الولايات المتحدة الأمريكية، والمزيد من تقطيع أوصال المحاكمات التي يجريها المحلفون في بريطانيا، إضافةً إلى عدد من الحريات المدنية ذات الصلة، كلّ ذلك يعتبره بيلغر، أنه “جزء من اختزال الديمقراطية إلى مجرد طقوس انتخابية- أي تنافس بين حزبين (الديمقراطي والجمهوري في أمريكا– والمحافظون والعمال في بريطانيا) لا يختلف أحدهما عن الآخر لإدارة دولة وحيدة الايديولوجية”.
وتطرّق بيلغر إلى “عولمة الفقر”، أي عالم يعيش فيه البشر على أقل من دولارين يومياً، وعالم يموت فيه 6000 طفل كلّ يوم بسبب الزحار لأن معظمهم لا يتوفر لهم الماء النظيف، وفي هذا العالم نظام متطور للنهب يُرغم أكثر من تسعين بلداً على تطبيق برامج “تعديل بنيوية” منذ الثمانينات، مما يوسّع الفارق بين الأغنياء والفقراء كما لم يحدث من قبل، وهو ما يُعرف باسم “بناء الأمة” و”الحكم الجيد” من قبل “الرباعي” المهيمن على منظمة التجارة العالمية أي “أمريكا وأوروبا وكندا واليابان” وثالوث واشنطن “البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية”، ذلك الثالوث الذي يتحكّم حسب بيلغر، حتى بأدق جوانب السياسة الحكومية في البلدان النامية، وهو يستمد قوته، إلى حدّ كبير، من الديون، التي لا يمكن وفاؤها، والتي يُجبر بسببها البلدان الأشدّ فقراً على دفع 100 مليون دولار للدائنين الغربيين كل يوم، والنتيجة هي عالم تتحكم فيه نخبة المليار نسمة، أو أقل، بثمانين بالمئة من ثروة البشرية، وكلُّ هذا يُشكل “الاقتصاد العالمي” وهو المشروع الأهم لوسائل إعلام الغرب.
ويقسم بيلغر كتابه إلى أربع مقالات، تبدأ بـ”التلميذ النموذجي”، وهي القصة عن الكيفية التي “فَقَسَ فيها الاقتصاد العالمي في آسيا عبر حمام الدم الذي جاء بالجنرال سوهارتو إلى السلطة في إندونيسيا 1965- 1966″، ويشرح فيها كيف تجاهلت وسائل الإعلام الغربية مليون إنسان ماتوا أثناء جلب “الاقتصاد العالمي الجديد” إلى إندونيسيا، وقال: إن “أكبر مجزرة في النصف الثاني من القرن العشرين لم تكن الخبر الذي يستحق الاهتمام، فرابع أكثر بلدان العالم سكاناً هو (لنا) أي “للغرب”، وجيمس ريستون عميد كتّاب الزوايا الأمريكية، يقول لقراء “النيويورك تايمز”: إن الأحداث الدموية في إندونيسيا هي “قبس ضوء في آسيا”.
وفي الفصل الذي يحمل اسم الكتاب نفسه “حكام العالم الجدد”، ويحمل أيضاً اسم فيلم وثائقي لـ بيلغر بُثّ عام 2001، يشير الكاتب إلى وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الغرب، ويعتبر أنها الـ”حكام الجدد” أي “نسخة جديدة من القوة القديمة، لأنها تستطيع اختراق المجتمعات في كلّ مكان، كما لم تكن من قبل”.
ويسعى فصل “اللعبة الكبرى” لتوضيح أن القوة للدولة الإمبريالية تظهر على شكل “يدّ خفية” وقبضة حديدية للرأسمال القائم، أما الفصل الأخير “المختارون” فيتحدث فيه الكاتب، عن بلده “أستراليا”، ويصفها بـ”العالم المصغر” عن التركات الاستعمارية وعن التصميمات والمخاوف الغربية، بينما يُمجّد كفاح السكان الأصليين ضدّ سياسة التمييز العنصري لحكام أستراليا، ويعتبر هذا الكفاح امتداداً للكفاح العالمي.
وتأتي ميزة هذا الكتاب، من أنه يصلح لكلّ العصور والأزمنة، فعلى الرغم من صدوره عام 2004، إلا أن تركيز كاتبه على أن وسائل الإعلام الغربية هي “حكام العالم الجدد”، وما تبعه من أحداث “الثورات البرتقالية– الربيع العربي” أكدت هذه الفكرة، وبيّنت عبقرية بيلغر الذي ورد في البحث عنه عبر الانترنت أنه “ناقدٌ قوي للسياسة الأمريكية والبريطانية الخارجية المدفوعة من البرنامج الإمبريالي، كما ربطته علاقة طويلة الأمد مع صحيفة “دايلي ميرور” البريطانية، بالإضافة إلى أنه كان يكتب عموداً نصف شهري في مجلة “نيو ستيتسمان”، كذلك فاز بجائزة “العام” للصحفيين البريطانيين مرتين، وحصلت أفلامه الوثائقية، التي عُرِضت دولياً، على جوائز في بريطانيا ومختلف أنحاء العالم، وتلقى كذلك العديد من درجات الدكتوراه الفخرية”.