الكتاب الأبيض الصيني
هيفاء علي
أصدر مجلس الدولة الصيني ورقة سياسية بالغة الأهمية بعنوان “مجتمع عالمي ذو مستقبل مشترك: مقترحات الصين وتصرفاتها”، والتي يعتبرها المراقبون بمثابة خريطة طريق مفصلة وشاملة لمستقبل سلمي متعدّد الأقطاب، شريطة ألا تجرّ القوة المهيمنة -المخلصة بالطبع لتكوينها الحربي- العالم إلى هاوية حرب هجينة أصبحت ساخنة ولها عواقب متوهجة.
وتماشياً مع التطور المستمر للشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين، يشير الكتاب الأبيض إلى أن الرئيس شي جين بينغ أثار لأول مرة رؤية مجتمع عالمي ذي مستقبل مشترك خلال خطاب ألقاه أمام معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية في عام 2013، أي قبل عشر سنوات عندما تمّ إطلاق طرق الحرير الجديدة، ومبادرة الحزام والطريق، التي أصبحت المفهوم الشامل للسياسة الخارجية في ذلك العصر.
وسيحتفل منتدى الحزام والطريق، الذي سيعقد الشهر المقبل في بكين، بالذكرى العاشرة للمبادرة ويستأنف سلسلة من المشاريع في إطارها. وبحسب المراقبين، فإن طموح الكتاب الأبيض هو تقديم الأساس النظري والممارسة والتطوير لمجتمع عالمي ذي مستقبل مشترك، حيث تشمل النقاط الخمس الرئيسية بناء شراكات تتعامل فيها البلدان مع بعضها البعض على قدم المساواة، وبيئة أمنية عادلة ومنصفة، والتنمية الشاملة، والتبادلات بين الحضارات، ونظام بيئي يعطي الأولوية للطبيعة الأم والتنمية الخضراء.
وفي حين تنتقد الصين “لعبة المحصلة الصفرية” التي لا تزال بعض البلدان تتمسّك بها، فإنها تنحاز بشكل كامل إلى الجنوب العالمي، الذي يمثل الأغلبية العالمية، كما هي الحال في المصالح المشتركة لكلّ الشعوب في العالم، فعندما يزدهر العالم، تزدهر الصين، والعكس صحيح. ويأتي هذا الكتاب من القادة السياسيين لحضارة الدولة، ولذلك فمن الطبيعي أن تشجع زيادة التبادلات بين الحضارات لتعزيز الوئام، في حين يؤكد بأناقة أن الثقافة التقليدية الراقية تجسّد جوهر الحضارة الصينية.
وعلى صعيد متصل، تواصل قافلة الحزام والطريق رحلتها، حيث ركزت الدبلوماسية الصينية بشكل كبير على الحاجة إلى تطوير نوع جديد من العولمة الاقتصادية، والانخراط في التنمية السلمية، والتعددية الحقيقية. وهذا يقود حتماً إلى مبادرة الحزام والطريق، التي وصفها الكتاب الأبيض بأنها مثال صارخ لبناء مجتمع عالمي ذي مستقبل مشترك، ومنفعة عامة عالمية، ومنصة للتعاون تقدّمها الصين للعالم.
أشار الكتاب الأبيض إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع دول العالم، وأكثر من 30 منظمة دولية قد اشتركت في مبادرة الحزام والطريق، كما أشار أيضاً إلى إطار الاتصال المترامي الأطراف والمتوسع باستمرار المكون من ستة ممرات وستة طرق ومجموعة من الموانئ وخطوط الأنابيب والاتصال بالفضاء الإلكتروني، بين أمور أخرى عبر الجسر البري الأوراسي الجديد، وخط السكك الحديدية السريع بين الصين وأوروبا (أسطول من الجمال الفولاذية)، وممر التجارة البري والبحري الجديد الذي يعبر أوراسيا.
ولفت الكتاب إلى أنه قد تكون هناك مشكلة خطيرة تتعلق بمبادرة التنمية العالمية الصينية، التي يتلخص هدفها الأساسي، وفقاً لبكين، في التسريع بتنفيذ أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030. خاصة وأن من صمّم هذه الأجندة هم أهل النخبة في دافوس، الذين يصفون أنفسهم بهذه الصفة، وتصورها في عام 1992 موريس سترونغ، أحد تلاميذ روكفلر، والذي يتلخص حلمه الأكبر في تنفيذ خطة إعادة الضبط الكبرى، مع استكمال أجندة خضراء سخيفة خالية من الكربون.
ومشدداً على توافق السياسة الاستراتيجية الروسية، في جوهرها، بشكل كامل مع الكتاب الأبيض الصيني، ذلك أن روسيا هي التي اقترحت الشراكة الأوراسية الكبرى، وبذلت جهوداً نحو التعددية القطبية وأولوية الجنوب العالمي في تشكيل نظام جديد للعلاقات الدولية. ولكن المرضى النفسيين من المحافظين الجدد على شاكلة شتراوس والمسؤولين عن السياسة الخارجية للدولة المهيمنة يواصلون رفع المخاطر، وهذا ما يفسّر الهجوم الأخير على مقر أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول.
وفي مواجهة الإذلال الكوني لحلف شمال الأطلسي في ساحة المعركة، ليس أمام مجموعة بايدن مخرج، حتى لو أعلنت وقف إطلاق النار من جانب واحد لإعادة تسليح قوات كييف بهدف شنّ هجوم مضاد جديد في ربيع وصيف 2024، فإن الحرب ستستمر، وستستمر الثرثرة حتى الانتخابات الرئاسية، وتحت نير المحافظين الجدد الشتراوسيين، لم يعد هناك أي احتمال للانفراج مع روسيا والصين.
كما أن الناتو هو في الأساس عبارة عن مضرب حماية مافيا تسيطر عليه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ولا علاقة له بـ”الدفاع” عن أوروبا ضد ما يُسمّى “التهديد الروسي”.
إن الإذلال الواضح الذي تعرّض له حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا يتفاقم الآن بفِعل الصعود العنيد لمجموعة “البريكس 11″، والذي يمثل تهديداً مميتاً للاقتصاد الجغرافي للدولة المهيمنة. وباستثناء الحرب النووية، لا تستطيع الولايات المتحدة وذراعها الناتو أن تفعلا أي شيء تقريباً باستثناء زيادة الحروب الهجينة والثورات الملونة وخطط الانقسام والهيمنة. وقد تمّ تنسيق الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين ذات السيادة الحقيقية على أساس التفرغ، والصبر الاستراتيجي هو القاعدة.
وهكذا يكشف الكتاب الأبيض عن الجانب النبيل لأكبر اقتصاد في العالم من حيث الشراكة بين القطاعين العام والخاص: إنه ردّ الصين على الفكرة الطفولية المتمثلة في “الحد من المخاطر”، فالصين “تتخلص” من المخاطر الجيوسياسية عندما يتعلق الأمر بعدم الوقوع في الاستفزازات المتسلسلة التي تمارسها القوة المهيمنة، في حين تمارس روسيا سيطرة على النمط الطاوي حتى لا تخاطر بحرب حركية. ومع ذلك، تشير تصريحات ميدفيديف إلى أن القوة المهيمنة اليائسة قد تميل إلى شنّ حرب عالمية ثالثة ضد ما يُسمّى “محور الشر” الجديد الذي يتكوّن من ثلاث دول من مجموعة البريكس: روسيا والصين وإيران. لكن أمين مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف، كان أكثر وضوحاً عندما صرح بأن الغرب في محاولاته للحفاظ على هيمنته، دمر بنفسه الأدوات التي كانت مفيدة له أكثر من الآلة العسكرية، وهي حرية حركة السلع والخدمات، وممرات النقل والخدمات اللوجستية، ونظام الدفع الموحّد، والتقسيم العالمي للعمل وسلاسل القيمة، ونتيجة لهذا فإن الغربيين ينعزلون بسرعة عن بقية العالم.