مجلة البعث الأسبوعية

لم تعد كما كانت.. “مونة” الشتاء متأثرة بظروف الغلاء والواقع.. والاستمرارية رهينة الدعم 

البعث الأسبوعية- محمد محمود

لا يمكن أن نتحدث عن الأرياف دون المرور على طقوس خاصة، وعادات ارتبطت لسنوات طويلة بمؤونة الشتاء، والتحضير لها، وما اعتادت عليه الأسر السورية من تجهيز وصناعة بضائع ريفية لها نكهة خاصة، نكهة مرتبطة بمكونات القرى والريف وما تجود به الطبيعة من خيرات ومنتجات، ولا يكاد الخريف أن يدق أبوابه حتى تبدأ العائلات بالعمل على أصناف مختلفة من “المونة” الشتوية، ابتداء بتحضير الحبوب وأصنافها المختلفة (البرغل- الفريكة- القمح المقشور- الكشك البلدي) ، مرروا بالمُربيات وأصناف الدبس المختلفة (الرمان- الفليفلة)، والزيتون وأصنافه العديدة، والمخللات والمكدوس، ثم الأجبان والألبان والسمن البلدي والقريشة واللبنة المحفوظة بالزيت، وانتهاء بالمكونات الأخرى كتجفيف بعض النباتات منها البامية مثلا والملوخية، والثمار كالجوز واللوز، وتحضير بعض الأعشاب التي لا تبخل فيها الطبيعة كالزعتر البلدي والزوفا والسماق، وغيرها، لكن واقعاً جديداً أرخى بظلاله اليوم على ما كانت تحضره العائلات من “مونة” للشتاء، فمحدود من بات يمتلك القدرة على تحضير الكميات التي كانت تحضر سابقا، والتي كانت تتمون بها العائلات خاصة في ظل واقع اقتصادي ومادي تعاني منه معظم العائلات، فأين ما كان يحضر وكيف أصبح واقعه.

 

خدمة ع “الطلب”

في أرياف طرطوس تحديداً تمتهن عائلات كثيرة فكرة العمل على تحضير أصناف محددة من المونة، وبيعها لأسر وعائلات في المدينة فمثلا تقوم السيدة “أم خضر” منطقة ريف صافيتا بصناعة معظم ما يلزم الأسرة من مؤن فتقوم بتجفيف الفليفلة وتحويلها لدبس، وتصنع كميات لا بأس منها من دبس الرمان، وعن آلية عملها تشرح “أم خضر “: كنا سابقاً نقوم بتحضير كل شيء تقريباً، لكن اليوم نقوم بالعمل بحسب الطلبات التي تردنا من العائلات، فلم تعد مثلاً تردنا طلبات كثيرة لصناعة مونة “المكدوس” وتحضيرها بشكل جاهز بسبب الارتفاع الجنوني لأسعار مكوناته، ومعظم الأسر تكتفي بشراء كميات محددة من دبس الفليلة أو الباذنجان المسلوق على الحطب الخاص بالمكدوس مثلا، ولم يعد العمل كما كان سابقاً بسبب غياب شروط تحضيره، وأمور أخرى جعلت عملنا ينحصر في القرى فقط بسبب صعوبة النقل والتسويق، فالعمل اليوم تراجع كثيرا وأصبح بحسب الطلب، ومثل أم خضر تتحدث عائلات كثير عن ظروف تجهيز المونة المرتبطة بغلاء المكونات وصعوبة نقل البضائع وتسويقها إلى المدن والمناطق المجاورة ما جعل تحضير هذه المؤن مرتبط بقلة قليلة وبأسعار مرتفعة جداً.

لا بديل

في المقابل ترى عائلات أخرى أن المونة الخاصة بالشتاء هي من الركائز التي يمكن الاستغناء عنها من أي عائلة حتى في حدودها الدنيا، وتقول تلك العائلات أن الظروف الاقتصادية الصعبة تجعلنا نعود لتلك الطرق القديمة التي كانت تخزن فيها الأطعمة دون كهرباء أو برادات، مع الحفاظ على جودتها وطعمها، فمهما تطورت وتسارعت وتيرة الحياة هناك أمور لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بأي مواد أخرى، وخاصة إذا كانت موروثة من الأجداد ونشأنا عليها جيلا بعد جيل وتذوقنا طعمها من يد جداتنا وأمهاتنا وكنا نعتبر وجودها في المنزل أنه أمر بديهي ابتداء ويتذكر صاحب إحدى العائلات ما كانت تخزنه أسرته من مشتقات الحليب كالشنكليش والقريش والزبدة واللبنة التي يتم حفظها بزيت الزيتون على شكل كرات صغيرة كي لا تفسد، والمقطرات من ماء الزهر والورد الذي يضفي الطعم والرائحة الزكية على ما ينتج من حلويات وأطعمة إضافة إلى النباتات كالزعتر البلدي والزوبع البري، والزهورات المكونة من عدة نباتات ذات فائدة علاجية نسبية، ونبتة الزوفا، والزعفران، وسواهم مما تنتجه الأرض إضافة إلى المربيات من المشمش والسفرجل والتوت والفريز واليقطين والزفير، ودبس الرمان، والخرنوب، والعنب، وسواهم، وكذلك الكشك المصنع بخبرة متوارثة عبر أجيال.

 

فقدان ملحوظ

من جهته يؤكد منذر رمضان عضو اتحاد الحرفيين في طرطوس أن الظروف الحالية غيرت النمط الذي اعتدناه سابقا والذي كنا نشاهد فيه أغلب هذه المنتجات وما نسميه مونة الشتاء متوفرة في منازل الفقراء والأغنياء على حد سواء، ولكن اليوم وفي ظل ضائقة اقتصادية وظروف معيشية صعبة نتيجة الحصار الجائر عل المواطن والوطن، وضعف القدرة الشرائية لشريحة واسعة من المجتمع وارتفاع الأسعار نتيجة التضخم بسبب الظروف أصبح التسويق لهذه المنتجات ضعيفا جدا مما ساهم بفقدانها من أغلبية منازل ذوي الدخل المحدود، وأثر سلبا على المنتجين المحليين أبناء القرى، والذين كانوا يعتمدون عليها كسبيل للعيش فعزفوا عن العمل بهذه المهنة، نتيجة ارتفاع التكلفة، وعدم توفر التسويق المطلوب، وقلة الطلب،  كونها كانت تؤمن مردود مالي يسد الرمق لأبناء القرى الذين كانوا يعتمدونها كحرفة تعيلهم ومرتبطة بتراث المحافظة والتراث السوري بشكل عام.

أين أصبحنا؟

ويؤكد رمضان أنه وفي ظل قلة العائلات التي باتت تعمل بهذه المؤن وجدنا بأن هناك عدد لا بأس به من المنتجات الريفية أصبح يتم تصنيعه في معامل خاصة، وأصبح من يعمل بالمونة لديهم منافسين أقوياء يمتلكون رأس المال، والوسائل لتصنيع منتجات ريفية يتحكمون بسعرها وجودتها، ولكن رغم كل هذا لا يمكن إضفاء نكهة الطبيعة ولمسة الحب الريفية بطيبتها على المنتج اليدوي الفريد، ويبين رمضان أنه ورغم تلك الظروف ما زلنا نشهد تطويرا لأصناف جديدة من المونة خاصة في محافظة طرطوس، فاليوم هناك بعض الأسر التي تقوم مثلا بخبز حلويات طبيعية ذات قيمة غذائية مدروسة بشكل علمي، وهي حلويات خالية من السكر حيث تم الاستعاضة عن تلك المادة بالتحلية بمواد طبيعية مثل الخرنوب وسواه، وهذا أمر يجب العمل عليه مع تلك الأسر ودعمه وتشجيع تلك الأسر لتقف من جديد وتحضر الأصناف المختلفة من المونة.

المطلوب أخيراً

وأكد رمضان أنه وفي ظل ما ذكرناه لا بد وبصورة سريعة من أخذ خطوات عملية تتناسب مع الواقع المحلي لضمان استمراريته واستمرارية تحضير مؤن الشتاء المختلفة من خلال تأمين التسويق المطلوب لمنتجات الحرفيين من الجميع وإعطائهم قروض ميسرة مع إعفاءات ضريبية نسبية وذلك لنفسح المجال لأكبر شريحة بالاستمرار والتطوير لتتحول من حرفة متناهية الصغر إلى صغيرة كحد أدنى، والجميع بالتأكيد معني بالدعم كالجهات العامة والمنظمات والمجتمع المحلي، ومن جهتنا نتابع أغلبيتهم ونساندهم ويتم إشراك أغلبهم في المعارض والفعاليات ولكن كل ذلك لا يلبي الطموح والغاية، والعقبات متعددة كأجور النقل وكلف الإنتاج من مواد أولية كالعلف للدواجن والسماد للخضار وسوى ذلك من متطلبات الإنتاج. آملين أن تلقى هذه الشريحة كل الدعم لنضمن ديمومتها على مر العصور المتلاحقة وتبقى ظلا وعونا للطبقة الفقيرة من ذوي الدخل المحدود وصورة مشرقة عن التراث والأجداد.