الهويات القاتلة.. مكونات الهوية وتفسيراتها المتعددة
لا يختلف اثنان على أن كتاب “الهويات القاتلة” لـ أمين معلوف من الكتب المهمّة، فقد أضاء على بعض ما نعيشه اليوم من تقلبات في المفاهيم الراسخة في مجتمعاتنا. من هنا اختار المنتدى الاجتماعي هذا الكتاب ليكون محور نقاش بين الحضور في الجلسة الثقافية الثالثة التي عُقِدَت مؤخراً في مقره من خلال د. سحر سعيد، وهو كتاب يتطرق لإشكال العصر: مكونات الهوية وتفسيراتها المتعددة، بل واستغلالاتها المتكررة في إشعال نار الفتن والحروب، ولا يخفى على أحد أن الكتاب خلاصة أفكار الكاتب التي تعرّف القارئ على بعضها من خلال رواياته وهو الكاتب اللبناني الذي ترك لبنان عام 1976 قاصداً فرنسا بعد أن مزقت الصراعات الطائفية بلده وقد كان ذلك سبباً من الأسباب التي جعلته يهتمّ بدراسة مسألة الانتماء والهوية التي قد تودي بالمرء إلى أن يصبح قاتلاً. ويسرد معلوف في الكتاب تجربته الشخصية بتناقضاتها الدينية والقومية والعرقية، فهو من أم كاثوليكية وأب بروتستانتي، وهو لبناني عربي، لكنه عاش نصف حياته في فرنسا متطرقاً لخطر الهوية حين تُحصر في قوام واحد.
تتشكل وتتغير
وبتلخيصها لكتاب “الهويات القاتلة” أشارت د. سحر سعيد في البداية لما كتبه معلوف في بداية الكتاب عن الهوية، حيث بيّن أن الهوية لا تعطى مرة وإلى الأبد بل تتشكل وتتغيّر على طول الحياة، ولدى كلّ شخص هوية مركبة، ولا تكون عناصر الهوية كثيرة عند الولادة، فهي تقتصر على بعض الخصائص الجسدية كالجنس واللون ومحيط المولود، وأن الأصل الإثني غير محدّد، واللون ليس عنصراً محدداً للهوية، فإذا كان الشخص من أبوين أحدهما أبيض والآخر أسود فهو يُعتبر في جنوب أفريقيا والبرازيل خلاسياً بينما يُعتبر في الولايات المتحدة أسود، ورأى أن عناصر الانتماء غير ثابتة وتتغيّر أهميتها حسب الظروف، فإذا سألنا شخصاً يوغوسلافياً منذ سنوات عديدة عن انتمائه فسيقول بفخر: “أنا يوغوسلافي”، أما بعد أن نشبت الحرب بين الصرب والبوسنة فيقول: “أنا مسلم” وحالياً قد يقول: “أنا بوسني”، مبيناً أن الدين قد يكون أهم عنصر انتماء لمجموعات ما، ولكن عندما تشعر هذه المجموعات أن لغتها أو قوميتها مهدّدة تقاتل من يشتركون معها بالديانة، ورأى أن ما يحدّد انتماء شخص إلى مجموعة هو تأثير الآخرين القريبين منه الذين يسعون إلى تملكه وتأثير الذين يواجهونه ويعملون على إقصائه، موضحاً أن الأهل منذ الطفولة يقومون بتشكيل الطفل بالمعتقدات والطقوس والأعراف واللغة وكذلك بالمخاوف والأحكام المسبقة والأحقاد، ثم تأتي ملاحظات الآخرين في المدرسة التي تتعلق بعيوبه أو بوضعه الاجتماعي لترسم ملامح شخصيته وتترك جروحاً تحدّد موقفه من انتماءاته في كل مرحلة من مراحل الحياة، وقد يتجمع أناس ذوو جروح متماثلة ويبرز من بينهم قائد يحرّضهم على فرض احترامهم على الآخرين، وقد يصل ذلك إلى استخدام العنف عندما يشعرون بتهديد لانتمائهم. كما توقفت سعيد عند طرح الكاتب لمسألة الهجرة إلى بلد مغاير بالثقافة والهوية، حيث رأى معلوف أنه إذا اضطر المهاجر إلى اختيار انتماء واحد من الانتماءين سيجد نفسه ممزقاً بين شعوره بأنه يخون وطنه الأصلي أو البلد المضيف، ويتأرجح بين الشعور بالذنب لتخليه عن وطنه وبين القلق والغموض الذي ينتظره في البلد الجديد والخوف من التعرّض للاحتقار أو السخرية أو الشفقة، حيث يقول الكاتب للمهاجرين: “كلما انطبعتم بثقافة البلد المضيف استطعتم دمجه بثقافتكم”، ويقول لأهل البلد المضيف: “كلما شعر المهاجر أن ثقافته الأصلية محترمة انفتح أكثر على ثقافتكم، ومن أجل التوجّه نحو الآخر يجب أن يكون الذراعان مفتوحين والرأس مرفوعاً، والبلد المضيف ليس صفحة بيضاء ولا صفحة مكتملة.. إنها صفحة قيد الكتابة”.
الدين والمجتمع
وأوضحت سعيد أن معلوف بيّن في كتابه أن هناك تأثيراً متبادلاً بين الدين والمجتمع (المجتمع يشكل الدين والدين يشكّل المجتمع)، مشيراً إلى أنه نشأ في أوروبا صراع بين المجتمع والكنيسة دام قروناً حتى صنع المجتمع الكنيسة والديانة التي يحتاج إليها، وأنه في العالم الإسلامي أنتج المجتمع ديانةً على صورته كانت تختلف من عصر لآخر ومن بلد لآخر، وأن المجتمعات الواثقة من نفسها تنعكس في ديانة واثقة مطمئنة منفتحة، وتنعكس المجتمعات القلقة في ديانة خائفة متزمتة غامضة، وبالتالي فإن الحركات الإسلامية الأصولية في رأيه هي نتاج عصرنا وانحرافاته وتوتراته وخيباته. وأشارت سعيد إلى أن معلوف نوّه بأننا نتقبل تقدم المعارف وانتشار العولمة لأنها مفيدة أو محتمة، لكن البعض يثور عندما يشعر أن هناك خطراً على عنصر مهمّ من هويته كاللغة والديانة أو الثقافة والاستقلال، فيحصل تعزيز للهوية كردّ فعل ويعزز القلق الوجودي المرافق للتغيرات المفاجئة والحاجة إلى الروحانية، وأن الانتماء الديني هو الوحيد الذي يسعى لتقديم إجابة على هاتين الحاجتين.
يقول أمين معلوف: “لا أحلم بعالم بلا دين إنما بعالم تنفصل فيه الحاجة إلى الروحانية عن الحاجة إلى الانتماء.. لا يكفي فصل الكنيسة عن الدولة.. إن فصل الدين عما يتعلق بالهوية لا يقلّ أهمية.. يجب البحث عن انتماء أكثر اتساعاً ويحمل رؤية إنسانية أكثر اكتمالاً دون أن يثير حذر الناس لأنه يبدو لهم خطراً على هويتهم”، مع تأكيده على أنه ينبغي للفرد أن يتبنى عدداً كبيراً من العناصر التي تأتيه من الثقافات الأخرى، بشرط أن يكون هناك من يتبنى بعض عناصر ثقافته الخاصة وأنه يجب أن يتمكّن كل شخص من التماهي ولو قليلاً مع البلد الذي يحيا فيه، وأن يدرك أن هويته هي حصيلة انتماءاته المختلفة بدلاً من أن يختزلها في انتماء واحد قد يصبح أداة استعباد أو حرب، ويجب على الذين يعيشون في غير موطنهم الأصلي الحفاظ على ثقافتهم الأصلية مع الانفتاح على ثقافة البلد المضيف.
لا أملك هويات متعدِّدة
يقول أمين معلوف في مقدمة الكتاب: “منذ أن غادرت لبنان عام 1975 للاستقرار في فرنسا، فكم من مرةٍ سألني البعض عن طيب نيّة: إنْ كنتُ أشعر بنفسي فرنسياً أم لبنانياً، وكنت أجيب سائلي على الدوام: هذا وذاك لا حرصاً مني على التوازن والعدل بل لأنني سأكون كاذباً لو قلت غير ذلك، فما يحدّد كياني وليس كيان شخص آخر هو أنني أقف على مفترقٍ بين بلدين، ولغتين أو ثلاث لغات، ومجموعة من التقاليد الثقافية، وهذا بالضبط ما يحدّد هويتي، فهل أكون أكثر أصالةً لو استأصلت جزءاً من كياني؟ ويضيف: إلى الذين يطرحون عليَّ هذا السؤال أشرح بصبر وأناة أنني أبصرت النور في لبنان وعشت فيه حتى سن السابعة والعشرين، وأن العربية هي لغتي الأم، وأنني اكتشفت دوماس وديكنز ورحلات جليفر من خلال الترجمة العربية، وعرفت في قريتي الجبلية وضيعة أجدادي أول أفراح الطفولة، وسمعت فيها بعض القصص التي استلهمتها لاحقاً في رواياتي، فكيف أنساه؟ وكيف لي أن أنسلخ عنه؟ غير أنني ومن جهة أخرى أعيش منذ اثنين وعشرين عاماً على أرض فرنسا أكتب رواياتي بلغتها، وهي لن تكون أبداً أرضاً غريبةً بالنسبة إلي.. هل أنا نصف فرنسي، وبالتالي نصف لبناني؟ لا أبداً.. الهوية لا تتجزأ ولا تتوزَّع مناصفةً أو مثالثة ولا تصنَّف في خاناتٍ محدَّدة ومنفصلة عن بعضها البعض، وأنا لا أملك هويات متعدّدة بل هوية واحدة مؤلَّفة من العناصر التي صنعَتها وفقاً “لجرعة خاصة لا تتطابق مطلقاً بين شخص وآخر”.
يتضمن كتاب الهويات القاتلة أربعة أبواب: “هويتي وانتماءاتي، عندما تأتي الحداثة من الآخر، من القبائل الكوكبية، ترويض الفهد” وينتهي البحث بخاتمة.
أمينة عباس