حرب تشرين.. أزالت آثار النكسة وحطّمت أسطورة “جيش لا يقهر”
د. معن منيف سليمان
كانت حرب تشرين التحريرية الخالدة ثمرة جهود حثيثة وعمل جاد واستعدادات دؤوبة من قبل جيشي سورية ومصر، إذ عمل البلدان منذ نكسة حزيران عام 1967، لإزالة آثار العدوان بعدما تمادى العدو في غطرسته وبالغ في تقدير قوته العسكرية مقابل استخفافه بالعرب وقدراتهم.
وعلى كل حال، تمكن العرب على الرغم هذه الظروف الصعبة التي فرضتها النكسة من تحديد زمان ومكان الهجوم، فكان يوم 6/10/1973، في تمام الساعة الثانية وخمس دقائق ظهراً زمان بدء الهجوم المشترك على الجبهتين السورية والمصرية، حيث تمكنت القوات السورية من اجتياز “خط آلون” وتحصيناته في الجولان، والتقدم على ثلاثة محاور، في حين تمكنت القوات المصرية من عبور قناة السويس وإقامة مراكز ونقاط استناد لها على الضفة الشرقية للقناة. وبدت مظاهر الانهيار على القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، ومؤكد أن الحرب كانت ستأخذ مساراً مختلفاً لولا التدخل الأمريكي الغربي المباشر الذي حال دون الانهيار الكامل للجيش الصهيوني.
فعندما نشبت حرب تشرين عام 1973، كانت هناك قوتان عظميان في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وقد كان لهما مواقف معلنة من الحرب، على الرغم من تبني كل منهما لسياسة الانفراج الدولي، وكاد تدخل الدولتين والتحركات العسكرية لقواتهما خلال مراحل الحرب أن ينذر بنشوب حرب عالمية ثالثة.
أما على صعيد الأمم المتحدة فقد صادق مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي – السوفييتي المشترك بقراره رقم /338/ الخاص بوقف إطلاق النار على جبهات القتال في سيناء والجولان خلال /12/ ساعة من إعلانه في تمام الساعة السادسة واثنتين وخمسين دقيقة صباح يوم 22/10/1973، وقد وافقت “إسرائيل” على قبول تنفيذه مباشرة. وبحلول موعد تنفيذ القرار في الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم التزم الطرفان المصري والإسرائيلي بوقف إطلاق النار، في حين استمر القتال على الجبهة السورية، رافق ذلك خرق لإطلاق النار على الجبهة المصرية في اليوم التالي من قبل القوات الإسرائيلية، ما استوجب إصدار قرار رقم /339/ المؤكد لوقف إطلاق النار وانسحاب قوات الطرفين المصري والإسرائيلي إلى الخطوط ما قبل الساعة السابعة من مساء 22/6/1973، ومع استمرار “إسرائيل” لخرق إطلاق النار للمرة الثالثة، صدر قرار رقم /340/ يدعو فيه إلى الامتثال للقرارين (338 و339) والعودة إلى خطوط 22/10/1973، وزيادة عدد المراقبين الدوليين في المنطقة وإنشاء قوة طوارئ من الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، على أن يتم تنفيذ ذلك فوراً بمساعدة الأعضاء كافة في المنظمة الدولية.
أما على الجبهة السورية، فقد أبلغت سورية في صباح يوم 24/10/1973، الأمين العام للأمم المتحدة موافقتها على قرار مجلس الأمن رقم /338/، وربطت ذلك بإلزام “إسرائيل” على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في عام 1967، وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وقد قرنت سورية موافقتها بتقيد “إسرائيل” بوقف إطلاق النار، مع التأكيد على استعداد القوات المسلحة السورية لاستمرار القتال عند الضرورة.
كانت سورية تعرف أن قرار مجلس الأمن لا يتبنى الأهداف العربية التي حارب العرب من أجلها، كما كانت تعرف في الوقت نفسه أن أي قرار سياسي هو انعكاس لميزان القوى على النطاقين الإقليمي والدولي، وللظروف الموضوعية والعوامل الذاتية التي نجم عنها، وهو بهذا المعنى لا يمكن النظر إليه على أنه شيء دائم، ولكنه خطوة على الطريق يتحقق فيها الهدف المرحلي للنضال العربي ويهيئ الظروف الأكثر مواءمة لمواصلة السير على طريق تحقيق الأهداف البعيدة.
كانت حرب تشرين الأول عام 1973، من أبرز الأحداث التاريخية في التاريخ العربي المعاصر نظراً لمنعكساتها ونتائجها العسكرية والاقتصادية والسياسية. فقد نجح العرب في تحطيم مبدأ التفوق العسكري الإسرائيلي، وانتزاع زمام المبادرة من العدو باتخاذ قرار شن الحرب المفاجئة، ومنّي العدو خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، بعد أن كانت “إسرائيل” هي التي تختار زمان الأعمال العسكرية ومكانها، وتحدد وحدها من جانبها أبعاد الصدامات المسلحة.
كما أدت الأعمال العسكرية إلى خسائر كبيرة غير متوقعة في الجيش الإسرائيلي، حيث بلغ عدد القتلى، حسب الاعترافات الإسرائيلية، ثلاثة آلاف قتيل، وعدد الأسرى نحو خمسة آلاف جندي وضابط، وهذا عدد ضخم بالنظر إلى القوة البشرية القليلة لدى “إسرائيل”.
وكانت للحرب انعكاساتها النفسية والسياسية السلبية على الكيان الصهيوني، فاهتزت الصورة التي خلقتها “إسرائيل” في نفوس مستوطنيها بأن الجيش الإسرائيلي لا يقهر، فضلاً عن التمزق في الداخل الإسرائيلي من جراء ذلك، وأن هذه الحرب خلافاً لما سبقها، كانت أطول مدة ولها تأثيرها من الناحية النفسية، فلم يستطع الجنود تفسير ظاهرة التعب المضني التي رافقتهم وعدم قدرتهم على النوم، وضاقوا بالحديث عن الكوابيس، وقد حاولوا مراراً إخفاء هلعهم، وبهذا زادوا من التوتر النفسي الذي لم يجدوا له متنفساً، ولا شك أن ذلك كان نتيجة لانهيار وهم التفوق الإسرائيلي.
وأصابت الحرب “إسرائيل” بخسائر اقتصادية ومادية جاوزت قدرة “إسرائيل” على تحملها فشملت خسائرها مختلف القطاعات الاقتصادية: الصناعية، والزراعية، والعمرانية، وأوقعت ميزان المدفوعات والتجارة بعجز كبير، وارتفعت الأسعار ارتفاعاً فاحشاً، وخفض النقد.
وأدت الحرب إلى عزلة “إسرائيل” دولياً بسبب سياستها العدوانية التوسعية، وتجاهلها حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وهذا ما جعل مشاعر بلدان العالم الثالث تؤيد العرب في المحافل الدولية، كما رافقت ذلك خيبة آمال قادة المؤسسة الصهيونية بإنشاء “إسرائيل” الكبرى بعد تقلصها إلى كيان معزول دولياً.
وأبرزت الحرب أهمية استخدام سلاح النفط العربي في المعركة، الذي استخدم للمرّة الأولى، محدثاً تحولات مهمّة في الوضع الدولي لصالح العرب، ولأول مرّة تصدر دول السوق الأوروبية المشتركة في عام 1973، وثيقة سياسية مهمّة دعت فيها إلى تسوية النزاع في الشرق الأوسط على أساس قرار مجلس الأمن رقم (242) لعام 1967.
وأكدت الحرب أهمية التضامن العربي في مجابهة الخطط الامبريالية والصهيونية في وضع الشرق الأوسط. وشجعت على تصاعد أعمال حركة المقاومة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة وخارجها، فازداد نشاط العمل الفدائي، واتسم بطابع جديد وهو الالتحام المباشر مع العدو بعد أن كان طابعه في السالف هو الضرب من بعيد.
وفي نهاية المطاف أشعرت الحرب أمريكا أن ربيبتها “إسرائيل” غير قادرة على حماية نفسها دون تدخل الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، على العكس تماماً مما كانت عليه المزاعم الإسرائيلية بعد حرب حزيران عام 1967.
ويبقى القول: إن العرب الذين خاضوا تشرين من أجل الكرامة والحقوق، يستطيعون خوض أكثر من تشرين آخر حتى يستعيدون حقوقهم كاملة غير منقوصة، سلماً كان ذلك أم حرباً.