“لا أختار تفعيلة البحر بل أترك الأمر على سجيته”.. حوار مع الشاعر فارس دعدوش
هويدا محمد مصطفى
حين تشدك القصيدة ويأخذك الشاعر لعالمه فاعلم أنك أمام شاعراً أتقن فنون القصيدة وسحرها فكيف إذا كانت القصيدة عمودية لشاعر تعشقه المنابر لعمق إحساسه وفكره المتقد بالابداع والدهشة .الشاعر فارس دعدوش وكان لنا معه هذا الحوار
بدايةً، وكما جَرَتِ العادةُ في أيِّ حوارٍ، كانَ السؤالُ الاعتياديُّ الأوَّل:
بعيداً عن الشعر، عَرّفْنا بنفسك.
ولكنَّ، لأنَّنا مع شاعرٍ مختلفٍ تتنفَّسُه لغتُه ويعرُّفُهُ شعرُهُ، كانَ السؤالُ:
- فارس دعدوش، عرّفْنا بنفسِكَ من خلالِ الشعر.
وُلِدتُّ في إحدى قصائد الشعرِ الخالدةِ، فنشأتُ أرعى قوافيها وأحميها، وأصونُ حمى حروفِها وأَقيها، فَكنْتُ رفيقَ امرىءِ القيسِ في رحلاتِ صيدِهِ، وحافظَ بأسِ عنترةَ في صمودِهِ ومجدِهِ، ومنصفَ النابغةِ في ”سقط النصيف” ومودّعَ هريرةَ ومؤنسَها الظريف….
بهذِا الجزءِ من مقدّمةٍ طويلةٍ عرَّفْتُ عن نفسي يوماً.
اسمي فارس، وُلدت في دمشقَ الشامِ، عامَ ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعين، نلْتُ درجةَ الدبلوم في التكاملِ الإعلاميّ، وأنا الآن بصددِ التخرّجِ كمهندسِ تحكّم من جامعةِ دمشق، وأدرسُ في قسمِ الدراساتِ الدوليّة والدبلوماسيّة في جامعةِ دمشق أيضاً، أنتمي لأسرةٍ سوريّةٍ بسيطةٍ فقيرةٍ مُحِبّةٍ للعلمِ، والدي شهيد ووالدتي مصابةٌ بفالجٍ شَقّيّ، وهناكَ شهيدانِ من إخوتي أيضاً، هذا أنا قريباً وبعيداً من الشعرِ وعنه، وببساطةٍ شديدة.
هذا أنا: نكهةٌ للحزنِ، عطرُ ردًى،
لونُ اختناقٍ لسوداويّةِ الآتي
آثارُ ذنبٍ، منى سعدٍ، عتابُ أذًى،
قهرُ الثكالى، وحسراتُ اليتيماتِ
هذا أنا، ما جرَتْ أقلامُ من كتبُوا
إلا وكنْتُ نزيفاً في القصيداتِ
وكلَّما كانَ بيتُ الشعرِ مبتسماً
ومرَّ قربي استعاذَ الشعرُ باللاتِ
ومالَ لي فاتحاً بالكادِ دفترَهُ
مستسلماً للذي تمحوه ممحاتي
فكيفَ لي يا ابتسامَ اللهِ في رئتي
أن أخلقَ السّعدَ من موتِ ابتساماتي!
- من المعروف أنَّ الشعرَ ماءَ اللغةِ يُحيي القلوبَ المُحبِّةَ له، فكيف لم يحيِ قلبَكَ ولم يسعدُكَ وأنتَ الذي تحبُّ اللهَ مبتسماً في أنفاسِك، إذاً لماذا تكتب ؟! وَلِمَن تكتب؟!
الشعرُ ليسَ وسيلةً لغايةٍ تُرادُ، إنَّما هو الغايةُ التي يُسعى إليها، فهو لم يُخْلَق ليبتسمَ ناظمُهُ، بل خُلِقَ ليُمْتِعَ قرّاءَهُ ومريديهِ ويبهجُهُم ويُدخِلَ الفرحَ في قلوبِهم والوعيَ في عقولِهم ويزيحُ غشاوَةَ التاريخِ عن بصيرتِهم، ويضافُ لذلك اليومَ تثقيفُ القارئِ وإغناؤُهُ لغةً ومعرفةً علميّةً وأدبيّةً ومجتمعيّةً وروحيّةً، فنحن اليوم نعيشُ عصرَ النهضةِ العلميّةِ الرقميّةِ وخمولَ العطاءِ الأدبيِّ العربيِّ بسببِ ابتعادِ المجتمعاتِ العربيّةِ قليلاً عن مطالعةِ الشعرِ وحفظِهِ والتغنّي به، وسببُ ذلكَ وجودُ البدائلَ التي سدّتْ ثغوراً كان لا يغطيها في قلوبِ النّاسِ وعقولِهم إلا الشعر، وإذا قالوا قديماً إنَّ الشعرَ ديوانُ العربِ، فإنّني أقولُ اليومَ إنَّ الشعر ما يزالُ موجوداً وقابلاً أن ي، ولكنَّ العربَ غادروا عروبَتهم إلا ما رحمَ ربي، أكتبُ للناسِ معبّراً عن وجعِهم، ومقارباَ لعاطفتِهم، ومحاولاً فهمهم.
- تكتبُ القصيدةَ العموديّة، هل تجدُ نفسَكَ من خلالِها وما رأيكَ بِقصيدةِ النثر ؟
أميلُ موسيقيّاً للشعرِ العموديِّ ولقصيدةِ التفعيلةِ، وأعشقُ ذلكَ السحرَ الذي يجذبُني عروضيّاً فيهما. وأنا فعلاً أكتبُهما عن حبّ ولكنّني لا أتعمّد اختيارَ النمطِ بينَ العموديّ والتفعيلة، وكذلك لا أختارُ تفعيلةَ البحرِ بل أتركُ الأمرَ على سجيّتهِ، وربّما بسبب اطلاعي على نتاجِ قصائدِ الأقدمينَ وحفظي لنتاجِهم بحبٍّ ووجودي في عائلةٍ كانَ الأبُ فيها يحبُّ الشعر ويتغنى به جعلني ماهراً في اختيارِ ما أكتب وما اقرأ وما أحفظ، فقد بدأْتُ بحفظ المعلّقاتِ في العاشرة تقريباً من عمري، ثم مررت بالمفضليّاتِ والهجائيّاتِ والبكائيّات، وتعمدتُ التعمّقَ بدراستِهم فدخلْتُ بعدَ ذلك في قراءتي للمذاهبِ الأدبيّةِ العربيّة فمن التقليديّةِ للإبداعيّةِ للرمزيّة للحداثةِ، كما مررْتُ مطلّعاً باحثاً في البنيويّةِ والتفكيكيّةِ مستفيداً من تجربتي كإنسانٍ معاصرٍ تأطّر بجغرافيّةِ المكان وحلّق في آفاقِ الزمان.
أمّا عن النثر، أنا أكتبُ النثرَ من حينٍ لآخرَ، والنثرُ فنٌّ أدبيٌّ جميلُ بحاجةٍ لتكثيفٍ ولخلقِ معانٍ جديدةً، ذلك أنّهُ ينبغي التعويضُ عن غيابِ موسيقى العروضِ بموسيقى المشهديّةِ وتناغمِ الإحساسِ وكثافةِ الصورة.
النّاثرُ ليسَ بِشاعرٍ، الشّعرُ موسيقى عروض، والنّثرُ موسيقى صورة، الشّاعر يكتبُ الشعرَ، والنّاثرُ يكتبُ النَّثرَ، وبالتالي هناكَ قصيدةٌ شعريّةٌ، وهناكَ مقطوعةٌ نثريّةٌ.
- لو تحدثُّنا عن بعضِ قصائدِكَ ومواضيعِها، وهل تجدُ نفسَكَ من خلالِها؟
قصائدي بناتي، وأنا لا أجدُ نفسي من خلالِ قصائدي، بل أجدُ قصائدي من خلالي، فأنا مسبّبُ وجودِها، ولكنّني أقرأُني فيها، وأرى صورتي مطبوعةً عليها، كتبتُني فيها بجميع حالاتي، فقد كنْتُ فيها غنيّاً وفقيراً، فارساً وأميراً، طفلاً صغيراً وشيخاً كبيراً، حيّاً قليلاً وميْتاً كثيراً….
أعني أنّني في كلِّ مرَّةٍ أخوضُ فيها غمارَ قصيدتي كنْتُ أتقمّصُ دوري فيها، أنا المؤَلِّفُ والبطلُ والكاتبُ والمسرحُ.
قصائدي كثيرةٌ، ولكنَّ بعضَها تحفلُ بخصوصيّةٍ في قلبي ومنها مثلاً:
- تمثالُ فدائيٍّ في مُتْحَفِ روكفلر:
وقد كتبَتْ في الفدائيِّ الفلسطينيِّ وفي القضيّةِ الفلسطينيّة. ونالت جائزة مهرجان نهج الشهيدين عام ألفين وواحدٍ وعشرين.
- نقلةُ البيدقِ العربيّ:
وقد كتبَتْ في تجربتي العربية كمناضل قوميّ عروبيّ قبلَ أن تتأنسنُ الأشياءُ في روحي، وكانت فكرةُ القصيدةِ حينَها قائمةً على رقعةِ الشطرنج وعلى ربطِ أحجارِها وعناصرِها والصراعِ القائمِ بينَ البياضِ والسّواد بمدلولاتٍ تاريخيّةٍ وسياسيّةٍ ودينيّةٍ، وقد نالَت جائزةَ مهرجانِ همسة الدولي في القاهرة لعام ألفين واثنينِ وعشرين.
- يقولُ الشهيد:
قصيدتي المهداةُ إلى شهداءِ وطني وأخصُّ منهم أخي محمد رحمه الله. وقد كُتبَتْ على لسانِه من داخلِ قبرِهِ في ليلتهِ الأولى التي فارقَنا بنا، ونالَتْ جائزة مهرجانِ (مبدعونَ من أجل وطن) في دمشق لعام 2022.
وفي الحقيقة كل قصائدي تعنيني، وأكتبُ في موضوعاتِ الحياةِ جميعَها، لغةً وفلسفةً وتاريخاً وجغرافيا ورياضياتاً وفيزياءً.
- هل مواقع التواصل الاجتماعي لها دور في نشر قصائدك؟
حينَ كنتُ طالباً في المدرسةِ الإعداديّة كنت أنظم القصائدَ وأعرضُها على أساتذتي، وحينَ كنْتُ في الصفِّ الأوّلِ الثانويِّ شاركْتُ بمسابقةٍ شعريّةٍ أعلنَتْ عنها منظّمةُ اتحاد شبيبة الثورة فنلْتُ المركزَ الأوّلَ حينَها، ومنذُ ذلك الحينِ بدأَت قصائدي تنتشرُ في دوريّاتِ اتحاد شبيبة الثورة ومنها مجلة شبابنا، وبعد ذلك نشرت في صحيفةِ البعث المحليّة، كما نشرْتُ في صحيفةِ الأسبوع الأدبيِّ الصادرةِ عن اتحاد الكتّاب العرب، وكذلك في صحيفة البناء اللبنانية والسفير العربيّة، وفي غيرِ ذلكَ من الصّحفِ والمجّلاتِ العربيّة والمحليّة.
أمّا عن استخدامي لوسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ، فإنّني وجدتُّ فيها مُتَنفَساً لي، ولا شكَّ أنَّها وسَّعَتْ آفاقَ انتشارِ قصيدتي، وأضفَتْ عليَّ وجودَ بعض الأصدقاءِ الأدباءِ في حياتي، وجعلَتْ وصولَ قصيدتي لمن أريد أسهل، ولكنَّها سلاحٌ ذو حدّين ينبغي ألّا تجعلنا ننقادُ باتجاهها متجاهلينَ الحالةَ الحقيقيّةَ للأدبِ التي جوهرها القراءةُ الورقيّةُ ورائحةُ الحبرِ وروحِ القصيدةِ. وإنَّ وسائلَ التواصلِ الاجتماعيِّ قدَّمتْني إلى ملتقياتٍ أدبيّةٍ منها مثلاً ملتقى دوحة الشعراء، فقد كانت لي فيه حالة أغنَتْ تجربتي وزادتني شاعريّةً، وأفادَتني و ربطتني بجمهور شعرٍ واسعٍ.
- مالقصيدة التي كتبتها ولم تنته!
لا يوجد في تجربتي المتواضعةِ قصيدةٌ شرعْتُ في كتابتِها فلم تنتهِ لأنَّ قصيدتي بنت لحظتها، فحينَ تختمرُ فكرتها ببالي أكتبُها قالباً واحداً، ولكن يمكنني أن أحلمَ بقصيدةٍ لم أكتبْها بعد، كقصيدة (بنات نعش) التي ما تزالُ فكرتُها تروادني عن نفسي منذُ ثلاثةِ أعوام، ولكن لم تكتملْ بعد آفاقُها في مخيّلتي، ولست متعجّلاً للكتابةِ فيها، بل سأتركُها لحينِ سجيّتها.