ثقافةصحيفة البعث

نرجس عمران: أعرف معنى الفقد وتلسعني نيران الموت

لم يكن الشعر بالنسبة لها سوى مرآة لروحها ولآلام الفقد الذي عاشته وعاشه الوطن، فهي ليست شاعرة فقط بل امرأة فقدت زوجها وأخاها وأباها وأختها بسبب الحرب التي تعرّضت لها سورية، لذلك هي أكثر من غيرها تعرف معنى الفقد الذي تشعر به اليوم عائلات شهداء الكلية الحربية، وقد وقع خبر جريمة استهدافهم كصاعقة على روحها وذكَّرها بما لا تنساه أبداً.

هل يختلف تأثر الشاعر بالأحداث عن تأثر الإنسان العادي؟ 

من الطبيعي جداً أن يتأثر الإنسان بمحيطه، ونظراً لكون الشّاعر ابن البيئة التي يعيش فيها وابن الواقع والحياة فهو يتأثر بمجرياتها لأنها تعنيه بتفاصيلها، فهي حياته وظروفه ويومياته، ولكن نظراً لكون الشاعر كتلة من المشاعر فإن درجه تأثره تبلغ حداً يحرك فيه أصابع الإبداع حزناً أو فرحاً ويكون قادراً على أن يترجم تأثره هذا بنص أدبيّ نثريّ أو عمودي أو محكيّ أو غنائي، وهذا مرتبط بإلهامه وثقافته، وهنا نجد الفرق بين تأثر الشّاعر وتأثّر العامة من النّاس، فالنّاس عندما يتأثرون بموضوع معين يعبّرون عن مشاعرهم بطرق التعبير المتاحة للجميع، وهي الحزن أو البكاء أو الصّراخ أو الضّحك أو الرقص أو غيرها من أساليب التعبير التي تكون خاصة بكلّ فرد، فالبعض يلجأ إلى تناول الطّعام حين يحزن، والبعض الآخر يلجأ إلى الرّياضة حين يغضب، والبعض قد يلجأ إلى الوحدة والانعزال، وغيرها، وكلّها تتعلق بتكوين الشّخص النفسي والجسدي، أما الشّاعر فهو يعبّر بقلمه عن مَشاعره ومشاعر غيره من عواطف وأحاسيس، وهو قادر بنعمة الشّعر على أن يجعل الأحاسيس والمشاعر نصاً أدبياً جميلاً يريح روحه عند كتابته، ويريح أيضاً أرواح كلّ من شاركه في هذا الإحساس وقرأ هذا النّص، وهذه هي غاية سامية من الشّعر حين يلامس الشاعر أرواح الآخرين فيرتاحون عند قراءة أحاسيسهم مترجمة على الورق والتي لم يستطيعوا التعبير عنها، وهذا الأمر يسعدهم لكونهم وجدوا من عبَّر عنهم واستطاع إيصال خوالجهم للعلن، وبالتالي فإن الشاعر لا يمرّ مرور الكرام على الأشياء، فعلى سبيل المثال فإن رؤية وردة جميلة تهبّ عليها الرّيح فتحركها أمر عادي جداً قد لا يحرك في بعض النّاس أيّ إحساس، أما الشّاعر فإن هكذا منظر سيجعله يبحر كثيراً بأبيات شعريّة يتذكّر فيها عطر حبيبته وجمالها، وقد يجعله يستحضر موقفاً ما أو حادثاً، فيخلق نصاً شعريّاً يعبّر فيه عن درجة تأثره بما شاهده.

كيف يتأثر الشاعر بالأحداث الجسام في بلده؟ 

الشعر ليس غزلاً ورومانسية وكلاماً معسولاً محشواً بالعواطف ومكحلاً بالغرام للحبيبة فقط، بل للشّعر رسالة سامية على الشّاعر أن يكون مستعداً وجاهزاً لصوغها وإيصالها للجميع على أتم وجه وبكلّ مصداقيّة، فالحب لا يكون للحبيب فقط، فهذا الحبيب قد يكون الوطن، يتحدث عن أمجاده وتاريخه وعطاءاته وعن الظلم الذي تعرض وقد يتعرض له، وخاصة حين تكون الأحداث جساماً والوقائع كبرى، حينها يجب على الشاعر أن ينتفض بقلبه وعقله ليقف إلى جانب وطنه ويمتشق سلاح القلم في ساحاته والمنابر والصّحف، وفي يومنا هذا أصبحت “السّوشل ميديا” من ساحات القلم، وهي وسيلة ناجعة في إيصال الكلمة ونقل الشّعور ووصف الحالة، وما حدث لنا من فاجعة تعرّض لها شبابنا وذووهم عمل خسيس تمّ بفعل جبان غدّار تعرّض لمحرّماتنا بإساءة لا تُغتفر، وبالتالي كما استنفر الرّصاص في الوغى يجب أن يستنفر القلم ليكون الشّاعر جنباً إلى جنب مع الجندي، وربّ كلمة جارحة ونافذة تحثّ على النضال والصّبر، وهذا كلّه واجب على أبناء الوطن، كل حسب استطاعته، كما على الشاعر أن يتناول كل موضوعات الحياة ويلقي الضّوء عليها كأن يدعو للسّلام ونبذ الحروب، ويمدح حسن الخصال وضرورة التّحلي بالأخلاق الحميدة والدعوة للتعلم ونبذ العصبية والاهتمام بالنظافة، وغيرها، والدليل أن أشعار سليمان العيسى ما زالت راسخة في ذاكرتنا منذ الطفولة.

بجريمة كبرى مثل استهداف طلاب الكلية الحربية ما الذي يختلف في تأثر الشّاعر؟

تأثر الشّاعر يعظم بعظمة الحدث وعمق الإحساس به، فكيف إذا كان هذا الحدث متعلقاً بالوطن وأبنائه رجالاً ونساء وأطفالاً وهم خطوط حمراء يرفض أي سوري التعرض لهم فكيف إذا كان شاعراً؟ سيتدفق فيه إلهام الألم وتنبت على لسانه كلمات من الوجع ويستمد حرارة حروفه من حميّة النبض. هنا يبدو الموضوع وكأنّه شيء اضطراري أو غاية ملحّة تجعله يعطيها الأولوية لتنساب أشعاره بشتى المعاني لتعزيز الحميّة والغيريّة وحبّ الوطن والتنديد بكلّ سلوك مسّ حرمته بأذى من خلال سلاح القلم والكلمة.

وماذا عنكِ؟ كيف استقبلتِ خبر هذه الجريمة؟ وكيف عبّرتِ عنها كشاعرة؟ 

لقد تجاوز ألمي كلّ ألم، فأنا لستُ شاعرة فقط بل أنا امرأة فقدت زوجها وأخاها وأباها وأختها بسبب هذه المؤامرة اللعينة التي تعرّض لها بلدي سورية، لذلك فأنا أعرف معنى الفقد وتلسعني نيران الموت، وهكذا جريمة فعل جبناء فُرِض علينا بفعل غادر وخائن فرفضناه ونرفضه، ونحن نؤمن بأنّنا منذورون للوطن، وأرواحنا وأرواح أبنائنا تُبذَل له ليبقى حرّاً أبيّاً كريماً شامخاً. لقد وقع هذا الحدث على روحي كالصاعقة وأحسست أن جسدي يبكي، فالحدث مؤسف، شباب بعمر الورد تعطروا وذهبوا ليتخرجوا بصحبة أهاليهم وذويهم، لكن فرحهم لم يكتمل.. لقد أقسموا اليمين، وفي لحظة تخرجوا شهداء، فيا لحرقة القلب.. الأمهات والأهل والأخوة أرادوا التماس بعض الفرح، فلم يجدوا إلا الموت، وهذا الحدث ذكّرني بما لا أنساه أبداً، ذكّرني بأخي الذي أُسر أثناء قيامه بواجبه في حماية الوطن منذ سنوات بعد حصار دام طويلاً، لذلك أحسستُ بالأسى والأسف والقهر، فاضطررت إلى تخفيف الضغط من خلال الكتابة فكتبتُ عدة نصوص، وقلتُ عبارة لا يفهمها الخائن ولا الغدار: “حتى الحرب في أوجها أخلاق”.

هل يعجز الشّاعر أحياناً عن قول ما يشعر به؟ 

الشّاعر كتلة مشاعر، لكن بعض الأحداث قد تكون فوق طاقته على الاستيعاب والتحمّل، فهو إنسان أولاً وأخيراً، لذلك يشعر في مثل هذه الحالات بالعجز أحياناً، فتضيع الحروف وتخذله يمينه، لكنني أراه عجزاً مؤقتاً فلا يلبث أن ينهض أقوى حيث يستوعب الحدث ويدرك فداحته، فيأتي بما لا يتخيّل أنه قادر عليه أحياناً، وأنا أرى النتيجة بعد انقضاء الذهول مؤثرة وبليغة، وأجدني أتساءل: هل حقاً أنا كتبتُ هذا الجمال كلّه وبلغت هذا العمق ووصلت إلى هذا الحدّ من التعبير؟ والحقيقة أقول إنني بدأت الكتابة الجديّة للشعر مع بدايات الأزمة لأنني أحسستُ بمسؤولية تجاه بلدي في نقل الحقيقة للعالم من خلال متصفحي وعالمي الأزرق، وشيئاً فشيئاً بدأتُ أشعر بالرّاحة النفسيّة بعد كل نص أكتبه وكأن الشّعر كان لي علاجاً ودواء، خاصة وأن الأحداث تسارعت جداً، والفقد كان كريماً معي، والفراق سخيّاً، والموت لم يكن رحيماً، فقد أتاني بسلسلة متواصلة وكأنه أحب دياري فنزل بها أو كان يعاودها كل فترة وأخرى ليأخذ من الغوالي غالياً، لذلك كانت أشعاري في أغلبها للوطن والشهداء والسلام:

وفي السّاحات كانوا كالصقور/ وكان النصر نهجاً في الحضور/ هي الأمجاد ليست من فراغ / وليست من كلامٍ في السطور/ بل الأمجاد تُروى من دماءٍ/ تفوح النّصر في كل العصور/ فمن مثل الشّهيد في العطاء/ هدانا ما لديه في حبور/ ليبقى شامخاً هذا التراب/ به يختال زهواً أيُّ جوري/ يسارٌ والبشير وكل شهم/ وأيضاً سامر فخر الشّعور، ومن أمثالنا كثر تهادوا إلى العلياء من وسط القبور.

أمينة عباس