من “المجزرة” إلى “الطوفان”
أحمد حسن
بالتأكيد لا يمكن لأي مراقب أن يغفل عن رؤية ذلك الخيط المتين الممتد بين حمص حيث ارتُكبت مجزرة الكلية الحربية، بعد أن أدرك المحتلّ أن خيوط اللعبة تكاد تفلت من يديه، وبين غزة حيث فاض “طوفان الأقصى” بعد أن ضاق ذرعاً بالمحتل.
كلاهما، المجزرة والطوفان، ينوسان بين طرفي معادلة ليس لبقاء أحدهما فيها من سبيل في ظل بقاء الآخر، الوطن والاحتلال، وأبعد من ذلك فإنهما يقعان في شهر تشرين بمدلولاته التاريخية، وينتميان، للمفارقة الدالة، إلى وطن واحد قبل سايكس – بيكو وبعده، ويواجهان محتلّاً واحداً هو سايكس – بيكو، ولكن بنسخته الأمريكية – الإسرائيلية التي تستبطن الإرهاب والإرهابيين كمكون أساس في بنيتها التأسيسية.
كلاهما أيضاً يستبطنان، في جوهرهما، إذلالاً للمحتل. المجزرة بكشفها عن خسّته ونذالته وغدره، والطوفان بكشفه عن ضعفه وجبنه وهوانه، وبالتالي فإنهما معاً مؤشران بالغا الدلالة والدقة عن اقتراب زواله، وهذا “الاقتراب” تحديداً هو ما يفسّر ما يحدث، سواء في شراسة المحتل المتمثلة في “المجرزة” أم في قوة المقاومة التي أبرزها “الطوفان”، وأيضاً في ارتفاع “نشيج” بعض الأذرع، فصائل إرهابية وحكاماً، على تداعيات الثانية وصمتهم المذل، بل الشامت، على الأولى.
هنا في هذا النوسان بين “المجزرة” و”الطوفان” نفهم، وهذا ما يجب الاعتراف به، نجاح واشنطن، بالترهيب والترغيب في جرّ بعض العرب إلى مسار التطبيع، كما نفهم نجاح واشنطن بالترهيب لا الترغيب، في “عرقلة بعض الخطوات التي كان من المُفترض أن تُنجز ضمن المبادرة العربية”. وواقعياً كان هذا النجاح متوقعاً في ظل الواقع العربي المعروف، وهذا الواقع ذاته هو ما يفسّر، للأسف الشديد، هروب بعض هذه الدول – وهي للمفارقة من فريق التطبيع – من الاعتراف بالضغط الأمريكي إلى تحميل دمشق مسؤولية العرقلة، ولأن دمشق تعرف “الواقع” و”الأسباب” و”الدواعي”، فقد صمتت عن ظلم ذوي القربى رغم أنه “أشدّ مضاضة”.
وهنا، أيضاً، نفهم استنفار هؤلاء، الفعلي، لضبط مياه السيل الذي انحدر من غزة بحجة الواقعية والسلام، حتى إن أحد أبواقهم لم يتورّع عن وضع “الطوفان” في ظل سياق عرقلة مسار التطبيع، أقرأ مسار الذل، العربي – الإسرائيلي، والذي ينتظر البعض، قريباً، ما سمّوه محطة مفصلية فيه؛ وهذا، كما يقال، كلام حق يراد به باطل، فالحق أن “الطوفان” فعلياً يستهدف هذا المسار، ولكن ليس كرهاً بالسلام، بل لوعي مسبق بأن “المطبّعين يدوسون على دماء الفلسطينيين وقضيتهم وهويتهم”، كما قال أحد المقاومين، وأكثر من ذلك، فإن هذا التطبيع يدوس، بصيغته الراهنة، على قضية العرب الكبرى وجوداً وهوية، وأن نتيجته الوحيدة هي “المجزرة” سواء جاءت على ما شهدته “الكلية الحربية – ولا يمكن إنكار كونها رداً على محاولة التحرّر الوطني السوري التي تضمّنتها الاتفاقية الاستراتيجية مع الصين – أو على ما شهدته سياسة الدول المطبّعة من تغريب كامل عن قضاياهم ودورهم الحقيقي لمصلحة التحاق، بل إلحاق، ذيلي بالخارج الرامي، بحكم نظرته التقسيمية الوظيفية للعالم، إلى إبقائنا كمصدر للثروات الأولية وسوق للمنتج الاستهلاكي الخارجي المنشأ، فقط لا غير.
خلاصة القول: “المجزرة” و”الطوفان” طرفا معادلة واحدة من الصراع المستمر بين الوطني والمحتلّ، وذلك بطبعه، وضرورات التاريخ، يرتفع إلى مستوى أعلى من الصراع ليصبح بين فكرة عالمية تبحث عن الشراكة المفيدة للجميع في ظل استقلال الإرادات، وبين فكرة تريد تأبيد النهب ذي الاتجاه الواحد في ظل احتلالها، لذلك نفهم أن استهداف “الكلية الحربية”، كفعل إجرامي وإرهابي، أراد من “أمر” به قطف ثمرته في حرب الممرّات الاقتصادية التي انتقلت من السرّ ومكاتب المعنيين إلى العلن، وهنا أيضاً نفهم بعض ما يحدث في الجنوب السوري، وفي الشرق السوري، بهدف إعادة خلط الأوراق وتعقيدها، ونفهم كيف أن “الطوفان” يستبطن، في أحد جوانبه البارزة، رداً على كل ما سبق، وهنا تحديداً يظهر ذلك الخيط المتين الممتد من حمص إلى غزة ولو كره الكارهون.