بغياب مؤلّفيه.. إضاءة على كتاب “نزار قباني قيثارة دمشق”
نجوى صليبه
نضمّ صوتنا إلى صوت الأديبة الدّكتورة ماجدة حمّود، فيما يتعلّق بالجهد الكبير الذي بذله مؤلّفو كتاب “نزار قبّاني قيثارة دمشق” وهم الدّكتور محمد رضوان الدّاية والدّكتورة مانيا سويد والسّينمائي نضال قوشحة، إذ ليس أمراً سهلاً أن يتشارك ثلاثة كتّاب في تأليف كتاب سيرة ذاتية أو سيرة شعرية لشاعر كالشّاعر نزار قبّاني أو حتّى الوقوف عند مرحلة من مراحل حياته، لا من حيث تقسيم العمل ولا من حيث اختيار الأفكار أو القصائد أو المواقف إلّا إذا حُدّد الجزء الذي يريد الكتابة فيه وتحمّل مسؤوليته فقط أمام شركاء العمل وأمام المتلقّي، لكنّه أمر سهل أن يحضر واحد على الأقلّ من الكتّاب الثّلاثة ندوةً يقيمها اتّحاد الكتّاب العرب بمناسب مئوية نزار ويخصّصها للإضاءة على كتابهم.
وأوضحت الدّكتورة حمّود خلال الفعالية الأدبية التي أقامها اتّحاد الكتّاب العرب بمناسبة مئوية نزار قبّاني أنّ الجهد الأكبر هو للدّكتور الدّاية وما كتبته الدّكتورة سويد فهو أشبه بتقديم للكتاب، بينما قدّم قوشحة ما يشبه الخاتمة، وتبيّن: “حتّى الآن لم ينل نزار قباني اهتمام الدّارسين والنّقاد، وما تزال الدّراسات التي أحاطت بإبداعه في معظمها تقف على السّطح، لهذا تكمن أهمية الكتاب في تسليط الضّوء على إنجازاته وأكثر محطّات شعره أهميّةً، ويتألّف الكتاب من خمسة فصول، الأوّل: يهتمّ بالبيئة التي عاش فيها الطّفل والشّاب نزار، ويتناول الثّاني قضايا في شعر نزار المرأة والمجتمع والوطن، ويسلّط الضّوء في الفصل الثّالث على شعر نزار من إلى خارج التّصنيف، كما ينتبه الفصل الرّابع إلى تجربة الأندلس في حياة نزار وشعره، ويتوقّف الفصل الخامس عند تجربة النّزاريات والقصيدة الدّمشقية، وفي الفصل السّادس نزارية في الذّكرى المئوية لنيروزية نزار قباني، نزار عنه ومنه، ويتوقّف الكتاب عند أهم إنجازات نزار قبّاني أي اللغة الشّعرية التي تجمع بين ما هو حيوي ويومي ومدهش، وقد رأى الدّكتور الدّاية أنّ اللغة الثّالثة التي ألصقها بعض النّقاد بـ نزار قبّاني ليست دقيقة، صحيح أنّه استخدم لغة ذات إيقاع مدهش وقريبة المتناول “نكش ـ قرقش” أو صيغاً شعبية “الكانت ـ التي كانت” أو عبارات شعبية، بل إنّه اخترع جمعاً لا نجده في المعاجم فهو يستخدم جمع مئذنات بدلاً من مآذن، ولعلّ ما أكسب لغته حيويتها هو استخدامه مفردات يومية، فمثلاً تفاصيل ملابس المرأة تصل إلى نوعية القماش، كما نجد لديه لغة دخيلة تتعلّق بالعطور “الغيرلان” وأدوات التّجميل “الكحل والحمر”، ويسجّل للكتاب الاهتمام بجمالية اللغة الشّعرية التي تجلّت في شعر نزار مقدرة إبداعية منحته انتشاراً في التّلقي وتفرّداً مدهشاً، وهنا لا يمكن أن أنسى لقباً منحه جبرا لنزار وهو “صيّاد صور”، كما أنّ الدّكتور الدّاية أبرز دور البيئة الدّمشقية المترعة بالجمال “البيت والمدرسة” في إغناء مخيّلته الشّعرية، ولا شك أنّ الرغبة في التّجديد والتّغيير إبداعياً دفعته إلى رفض السّباحة في مياه راكدة، بل رأى أنّ الشّعر من دون حماقة موعظة في كنيسة وبيان انتخابي لا يقرؤه أحد، كما أبرز تأثّر لغته بموهبته في الرّسم، بل يلاحظ أنّ الشّاعر نفسه أدرك ذلك، فربط لغته الشّعرية بموهبته، حتّى أنّه عنون أحد دواوينه “الرّسم بالكلمات” كما تبدّى أثر موهبته الموسيقية في الإيقاع الحيوي للغته، لذا كان شعره صالحاً للغناء وأقبل عليه أشهر المغنين العرب أمثال أم كلثوم وعبد الحليم ونجاة الصّغيرة وماجدة الرّومي وكاظم السّاهر، وأعتقد أنّ سرّ الإقبال على شعر نزار هو جمعه بين الجمال في اللغة الشّعرية وبين القضايا العامّة، فقد حمّل الشّعر مسؤولية محاربة عقلية القبيلة والظّلم، بل أحياناً يحسّ المرء أنّه يحمل هموم العرب عبر التّاريخ، فهو مؤرّق بتخلّفهم، ومع ذلك قلّما يسقط في الإنشائية والخطابية، وفي رأيي، إذ تستطيع لغة الأنا الفردية أو الجماعية وقدرات الشّاعر التّصويرية أن تحوّل هذه القضايا إلى همّ يخصّ الشّاعر الذي ينطق بلسان العربي من المحيط إلى الخليج، بل يلاحظ المتلقي أنّ شعره غالباً يتجاوز الآنية لينطق بمآسي العرب التي ما تزال تتناسل من دون توقّف.. إنّه من أولئك الذين يحملون أوراقهم وأحزانهم ليكتبوا أحلاماً جديدة بشعرهم، لهذا يقول:
فإذا صادروا شمس بلادي
فبشعري سوف أبني وطناً
يا وطني الحزين
حوّلتني بلحظة من شاعر
يكتب شعر الحبّ والحنين
لشاعر يكتب بالسّكين
وبذلك يعلن موقفاً، لا يهادن فيه، فهو لن يسكت على هوان تعيشه أمّته، ويعلن صراحةً أنّ الكلمة الحرّة التي تحفر في الأعماق لتجتثّ من الجذور كلّ مجاملة أو نفاق لهذا لا مكان للمهادنة في شعره، ولاسيّما بعد أن أدرك الهاوية السّحيقة التي وقع فيها العرب إثر نكسة حزيران فكتب ديوان “هوامش على دفتر النّكسة” وعلت نبرة السّخط والسّخرية التي تريد تدمير كلّ ما هو سلبي في حياتنا لتنهض أمة جديدة على أنقاض أمّة ضعيفة”.
وتتابع حمّود: “في الكتاب نفس أصيل يربط شعر الحداثة بالتّراث، فيحسّ المتلقي أنّ الرّوح واحدة، كما يسجّل للكتاب توخّي الدّقة والأمانة العلمية في التّوثيق، إذ أتاح الدّاية معايشة الشّاعر في أكثر محطّات حياته أهميةً منذ ولادته وحتّى لحظة غروبه في لندن، بل يقدم للمتلقي آخر ما كتبه نزار على فراش احتضاره في عام 1998: “إنّ السّرير الذي أرقد عليه.. يكاد يطير ويطير معه مئتا مليون عربي.. هم أهلي”، كما يتوقّف عند آخر ما كتب من شعر أي قصيدة “جميلة أنت كمنفى” التي تعدّ أشبه بوصيته الأخيرة على الرّغم من أنّه يوجهها إلى مجهولة تجلس في المقهى، لكنّها تبدو عربية، نتساءل هل هي بلاده”.
ومن جانب آخر، تمنّت الدّكتورة حمّود لو توقّف الكتّاب عند السّيرة الشّعرية التي أرّخت لأعماق الشّاعر وإحباطاته وأحلامه، وكيف بدت اللغة السّيرية أكثر جرأةً وصدقاً في التّعبير عن دواخله وعن توهّج تجربته الشّعورية، مبينةً: “قد يكون قول فرجينا وولف صحيحاً “ثمّة ألف وجه ووجه للسّيرة الذّاتية في النّثر، لكنّه لن ينطبق على السّيرة الشعرية إلّا من خلال تأويل المتلقي وتعدّد قراءاته، ويلاحظ بأنّنا بفضل السّيرة الشّعرية التي أبدعها نزار قبّاني في دواوينه عايشنا تطوّر نظرته للمرأة مع تطوّر لغته الشّعرية، وكيف بدأ يتجاوز النّظرة الضّيقة لها والتي تحشرها بالجسد والملابس وأدوات الزّينة، لهذا ليس غريباً أن يعايش المتلقي هذا التّطوّر حين يسمع المتلقي صوت المرأة، يقول في إحدى قصائده:
أحببني شريكة في الرّأي والتّفكير
لا دمية من ورق
أو حبة من عنب
تؤكل في السّرير
لقد صرّح نزار قبّاني أنّ لقب “شاعر المرأة” كان يسليه في البداية، ثمّ أصبح لا يعنيه، وفي الفترة الأخيرة من حياته صار يزعجه لأنّه أحسّ بتحوّله من نعمة إلى نقمة”.
أمرٌ آخر أسهم في نضج أفكار نزار قبّاني و”ساعده على تجاوز عقلية شهريار في التّعامل مع المرأة وارتقت نظرته إليها” بحسب حمّود، وتعتقد أنّ الكتاب لم يشر إليه، وهو تعرّفه على نساء استثنائيات رفضن قيود عصر الحريم كقريبته غادة السّمان وكوليت خوري ونجاة الصّغيرة وسعاد الصّباح، وتضيف: “لاحظت في هذا الكتاب ظاهرة تتبدى في المؤلّفات القديمة وهي “ظاهرة الاستطراد”، فقد أتى مثلاً بقصيدة كاملة لخليل مردم بك “أستاذ نزار الذي شجعه على الإبداع”، كما لاحظت استخدام المؤلّف لغة العنف حين أراد أن يجسّد رفض نزار للإذعان، يقول:
وما أنا إلّا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد