طوفان الحلم
سلوى عباس
“حنظلة” هذه الشخصية التي ابتكرها الفنان ناجي العلي ووصفه أنه الشاهد الأمين الذي دخل الحياة عنوة ولن يغادرها أبداً، الشاهد الأسطورة والشخصية غير القابلة للموت، لأنها ولدت لتحيا وتحدت لتستمر، هذا المخلوق الذي ابتدعه العلي لم ينته من بعده، بل استمر به بعد موته، وقد صدقت نبوءته في استمرار شخصية حنظلة في الأجيال القادمة حيث أزهر ربيعاً من المناضلين الذين أكدوا على استمرار المقاومة الفلسطينية، فكان طوفان البطولة الذي انطلقت شرارته من الكلية الحربية في حمص التي قضت فيها أرواح كانت تعانق الحلم في لحظة اكتماله فباغتتهم يد الغدر السوداء، وامتد الطوفان ليشمل محور المقاومة على امتداد منطقتنا العربية لنصرة الحق وزهق الباطل، هذا الطوفان كان سيد الحلم بإعلان فلسطين بأسرها من شمالها إلى جنوبها ملك أبنائها، وأن الاحتلال يمكن أن يتفكك تحت ضربات المقاومين، هذا الطوفان الذي تزامن مع الذكرى الخمسين لحرب تشرين التحريرية كان إيذاناً بحرب تحريرية جديدة تشمل كل الأراضي العربية المحتلة.
“حنظلة” الذي خلق من رحم الألم وأدار ظهره للعالم، ويداه خلف ظهره مثّل الجيل القادم بكل ما ورثه من عناء وهزائم وتخلّف، هو ضمير أمتنا الحي وصوت البراءة الطفولية الذي لا يهادن، بل يعطى الأشياء ألوانها ومسمياتها الحقيقية، وها هو يطلق يديه من أسرهما ويدير وجهه للعالم مع رفاقه الذين كانوا على عهد المقاومة والنضال، حيث انطلق طوفان الأقصى لاسترداد الكرامة العربية المغتصبة منذ عام 1948 وتحرير فلسطين التي عانت من العدوان كثيراً وبقيت صامدة تقاوم، فأبناؤها فطروا على التحدي والمقاومة وكتابة التاريخ وتحقيق الهوية، فلسطين التي تلامس القلوب خلاياها ونبض الدم في عروقها، يبوح شهيقها بحزنها المستور، ويفيض زفيرها بالأسى المتواري في حناياها كالغبار.
كثيراً ما نحاول الهروب من قسوة ما يجري، ومن تثاقل الدقائق التي تسجننا بين عقاربها، فما يعانيه شعب فلسطين تسري فينا إيقاعاته، نسمع صراخه وأنّاته التي تخلخل ذرات الهواء حولنا، يكبلنا عجزنا عن انتشالهم من قدر العذاب الذي يعيشونه والذي عشناه ونعيشه أيضاً، فشعوبنا محكومة بقدر الحروب، محرومة من الراحة وهدأة البال، لكن من وحي نضالها تتفتح سنبلة من حنطة الأمل وتتوضح رؤية الخلق المدرك لحتمية الانتصار عبر انتفاضات يتدفق من خلالها لاوعي تتخلله الصحوات، تاركاً لنفسه حرية الانسياب مع مطر المفردات فوق أرصفة الأناشيد، يعزفها أبطال ستبقى ثورتهم صدى لصوت فلسطين الحرة والأبية بهم كرمز لأبنائها الذين يستحقون الانتماء إليها، فلسطين التي حاول الظلاميون وداعموهم إشعال المنطقة بالحروب والاقتتالات ليبعدوها عن محور المقاومة، لكنهم أخطأوا الهدف، فهي باقية في الوجدان عبر الأجيال لحمل لوائها والدفاع عنها، مخيبين آمال الصهاينة بأن الكبار يموتون والصغار ينسون فتنتهي القضية، وقد أثبت التاريخ كذب ما فبركوا وما سطروا من أضاليل، فأبناؤها يؤكدون تمسكهم بقضيتهم ويجددون العهد أن يكونوا أوفياء لرسالتهم العروبية، وأن يسافروا إلى الأبعد، إلى المدى المفتوح على الغد المشرق، ينفضون عنهم غبار الموت الذي حاول الأعداء نثره على أرواحهم، ويرسمون فضاءات تليق بطهر قضيتهم، ففلسطين سيبقى موعدها مع شمس الحق تسطع على الدنيا، وسيبقى أطفالها كما كل الأطفال العرب الذي عانوا من ويل الحروب يفتحون بيديهم دفاتر الأيام يكتبون فيها براءتهم شريطاً من الألم والقهر، وهاهم رجال الحق يتابعون مسارهم النضالي ليحرروا وطنهم وليشعلوا شمعة تضيء عتمة قلوب أمهات وأطفال رمدتها الحروب ومن حقهم أن يزهر الربيع الأخضر في شرايينهم ويعيشوا الحياة كما تستحق أن تعاش، مخاطبين العدو بكلمات الشاعر محمود درويش: “أيها المارون بين الكلمات العابرة/احملوا أسماءكم وانصرفوا، واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا/ وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة/ وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا/ أنكم لن تعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء”.