نافورة ساعة الأسود السحرية وسرّية اللغة الشعرية
غالية خوجة
قبل أن نصل إلى النافورة لا بد أن نمر من مدخل مكتوب عليه بتشكيلية زخرفية “لا غالب إلاّ الله” وهي الكلمات التي ما إن نذكرها حتى تحضر الأندلس لأنها حُفرت في الأذهان وبياناتها كمفتاح دليلي، ورمز تأريخي، وزمن عميق لا يتخلّى عن ذاكرته الحضارية، لأنها أصبحت مبانٍ عمرانية أثرية سجلتها اليونسكو كتراث عالمي، ومنها قصر الحمراء في غرناطة، بروعته الفنية المعمارية ببعديها العسكري والمدني.
قلعة أو قصر الحمراء أيقونة من أيقونات العصر الأموي الأندلسي الذي امتد 800 سنة، وشكّل حضارة مميزة جمعت الكتب من جهات الأرض وأولها من دمشق والقاهرة، ووصل عددها إلى 800 ألف كتاب متنوع في كافة المجالات، وصارت مركزاً علمياً وأدبياً وفنياً يقصدها الطلاب من أنحاء الأرض، واهتمت اهتماماً باذخاً بجميع المجالات الثقافية والأدبية والمعرفية والعلمية والاقتصادية والتجارية والفنية ومنها الموسيقية والمعمارية.
وما زالت وستظل حضارة الحجارة الحمراء تدور مع عقارب الساعة، وتكّاتها ترنّ مثل رقصات السماح الأثيرية، فتعبر مع الموسيقا المسحورة الأروقة والقاعات، وتلتفت القصائد إلى القناطر والأعمدة والأسقفة والتيجان والأقواس والساحات والجبال والوديان، وتعود إلى تحليقها مرة أخرى لتعكس ألوانها على الطبيعة، وتنحفر مع الخطوط وزخرفاتها، ومن أجملها قصيدة ابن زمرك الشاعر الوزير، المؤلفة من 47 بيتاً، منها 12 بيتاً منقوشاً على نافورة الأسود في بهو الأسود أو السباع، نقرأ منها: “وضراغم سكنت عرين رئاسة، تركت خرير الماء فيه زئيرا، فكأنما غش النضار جسومها، وأذاب في أفواهها البلورا”.
ترى، ألا تتضمن هذه القصيدة سراً خفياً لهذه النافورة التي لم يستطع فكّ لغزها المختصون والدارسون في كل من علم الفيزياء والهندسة والميكانيكا والتخصصات المختلفة الأخرى؟
ربما، لأن العرب اعتادت على تضمين الأرقام والأسماء والتواريخ والرسائل التي تودّ إيصالها بتشفير الأحرف والكلمات وتحويلها إلى أرقام وأسماء ومعادلات رياضية وكلامية ودلالية، وأولها الشعر.
وبذلك تكون اللغة العربية أول من ابتكر حضور نصوص غائبة أو خفية ضمن النص الحاضر أو الظاهر، ومنها الشيفرات السيميائية، الإيحائية، والرمزية، اللسانية، والخوارزميات اللغوية بعلاماتها الرياضية ومعادلاتها الخيميائية وضميرها النوراني الأبدي، وهذا بحدّ ذاته كنزٌ تراثيّ عربي إنساني عالمي ننتظر توثيقه في اليونسكو أيضاً.
ضمن هذا البهو يستطيع المتأمل أن يرى أطياف من سكنوا وعبروا حتى عام 1492 الذي غادرت فيه غرناطة زمن نافورتها الأحمر إلى زمن آخر أسود، ويا للغرابة، هو العام ذاته الذي تمّ فيه اكتشاف أمريكا!
وتسترجع التأثيرات الجمالية للبهو ذكرياتها منذ القرن الثالث عشر للميلاد، المطلة على مساحته كفناء رئيسي مستطيل مكشوف طوله 35 متراً وعرضه 20 متراً، تحيط بجوانبه الأربعة أروقة ذات عقود، يحملها 124 عمود رخامي أبيض، وتتلألأ أقواسها وتيجانها بفنيات كتابية وتوريقية محفورة بتناغمية تتكامل مع 4 قباب مضلعة، وتتمركز النافورة العجيبة في وسط البهو، ويتخذ حوضها المرمري شكله الدائري، ويحمله 12 أسداً.
والمميز، أيضاً، أن كل أربعة أسود تشكّل مجموعة مختلفة عن الأخرى، متشابهة بينها، سواء في طول الأرجل، أو تسريحة الفرو، أو الأنف، أو الأذنين، أو الملامح، ولم يعرف أحد حتى الآن ما تخفيه الاختلافات والتشابهات بين الأسود ومجموعاتها، لكن المؤكد أيضاً أنه لم يعرف أحد أسرار جماليات هذه النافورة، ومضمونها العملي الفلكي، كونها ساعة مائية، وظفت كل أسد من الأسود بتوقيت ساعة كاملة، يزأر ماءً مع اكتمال الستين دقيقة، ويبدأ الماء يخف مع كل دقيقة إلى أن يقف مع زأرة الأسد التالي معلناً دخول الساعة التالية، وهكذا إلى أن يزأر الأسود معاً عند الساعة الثانية عشرة، فيتدفق الماء أكثر ويذهب في طريقه إلى القنوات المخصصة، وهذه الساعات مقسمة إلى نهار وليل.
والمؤسف أن هذه الديناميكية الجمالية للزمن في نافورة الأسود توقفت عن دقتها الزمنية السرية مع عملية الترميم لأن الخبراء في كافة المجالات والاختصاصات لم يكتشفوا كيفية عمل الساعة المائية في هذه النافورة وظلت سراً علمياً وتقنياً ولغزاً رغم التطورات العلمية والتكنولوجية في هذا الزمن.