الكيان الصهيوني يدفع ثمن غطرسته العنصرية
عناية ناصر
على الرغم من الدهشة التي أحدثها اختراق المقاومة الفلسطينية للسياج الحدودي في غلاف غزة، والهجمات المباغتة التي تلت ذلك داخل المستوطنات الجنوبية، وتمّ الاستيلاء عليها من الفلسطينيين الأصليين في التطهير العرقي الماضي، فإن أسباب هذه الهجمات واضحة للجميع من ذوي العقول المنفتحة والذين لديهم شعور بالعدالة.
إن عناصر المقاومة مدفوعون بمعاناة شعبهم، حيث حفزتهم عدالة قضية فلسطين من أجل الحرية، كما جاءت هذه الهجمات رداً على سرقة قوات الكيان الإسرائيلي لأراضيهم بالجملة، والتطهير العرقي والإبادة الجماعية المتزايدة، نتيجة للمشروع الصهيوني العنصري الذي نشأ حتى قبل إنشاء الكيان قبل 75 عاماً.
قام الاحتلال العسكري بتدمير خمسمائة قرية فلسطينية في عام 1948، والتي غطتها الغابات الاصطناعية، وكان يهدف نظام الكيان الصهيوني الإجرامي من وراء ذلك محو غزة من على وجه الأرض، إذا تمكن من ذلك. ولم يكتف الاحتلال الإسرائيلي بذلك، بل عمل منذ عام 1967 على ابتكار طرق جديدة لقمع المقاومة ومحاولة القضاء عليها.
تأتي عمليات المقاومة الحالية بعد 16 عاماً من الحصار اللا إنساني على غزة، والذي شهد، إلى جانب المجاعة والحرمان، سلسلة من عمليات القصف من البر والبحر والجو من قبل قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقد أدّت تلك الهجمات إلى استشهاد الآلاف من النساء والأطفال، وعائلات بأكملها، ما يذكّر بشكل مروع بالأساليب النازية.
من خلال سياساتها ودعمها، كانت حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي طرفاً في حرب إسرائيل الدموية والترويج للحرب طوال تاريخها، وفي إفلات جرائم الدولة الصهيونية ضد الإنسانية من العقاب.
وقد أدّت الهجمات العسكرية المنتظمة في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، ومذابح المستوطنين المتعطشة للدماء، وشعارات “اقتلوا العرب”، والاستيلاء على الأراضي لمصلحة المستوطنات غير القانونية، إلى ترويع الفلسطينيين، وكانت المقاومة في مدن مثل جنين ونابلس ضد الكابوس اليومي للاحتلال العسكري بمثابة إشارة إلى مرحلة جديدة من الكفاح المسلح، قبل الهجوم على غزة.
لقد قارن أبناء جنوب أفريقيا الذين ناضلوا من أجل الحرية مراراً وتكراراً محنة الفلسطينيين بمعاناتهم، ووصفوها بأنها أسوأ من ذلك، وقد أصبح الوضع أكثر استفزازاً في ظل نظام نتنياهو اليميني المتطرف، وهو تطور منطقي للصهيونية، حيث يفخر وزير الأمن بن غفير في حكومته بأن يطلق على نفسه اسم الفاشي. لقد عانت جنوب أفريقيا طويلاً من الأعمال الوحشية والمذابح البشعة، ولكن لم يسبق وأن عانوا بالحجم الذي ارتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. كما عانى الفلسطينيون مثلهم مثل جنوب أفريقيا من سلب للأراضي وإلغاء الحقوق وضياع الحرية، ونتيجة لكل ذلك قاموا باللجوء إلى العمل المقاوم للسبب نفسه الذي دفع الفلسطينيين إلى ذلك، حيث لم يكن أمامهم خيار آخر.
وفي المرحلة الأخيرة من نضال جنوب أفريقيا، أصدر قادتها دعوة إلى “نقل القتال إلى المناطق البيضاء” وجعل البلاد من المستعصي حكمها، وذلك حتى يفهم البيض أنهم لن يستمروا في السماح ببساطة للنظام باقتصار الموت والدمار على البلدات السوداء والدول المجاورة. كما قاموا بفضح أكاذيب النظام بأنهم هم المسيطرون، وأن قدراتهم الاستخباراتية والأمنية والدفاعية كانت لها اليد الطولى، وأن جهود جنوب أفريقيا كانت سخيفة.
لقد أُجبر نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا على دفع ثمن غطرسته العنصرية، ويبدو أن هذا هو بالضبط ما حققته عملية “طوفان الأقصى”. على الرغم من أن تبعات هذه العملية على أهل غزة سيكون ثمنها باهظاً، لكن الصحفي والباحث الفلسطيني محمد مهاوش، الذي يخشى على حياة عائلته، قال: “بالنسبة لنا ممن يشاهدون الوضع من داخل غزة المحاصرة، لم يكن الوضع أقل من مرعب، لقد شاهد العالم ما نعيشه هنا، ونحن محاصرون في هذا السجن المفتوح، مشتاقون إلى الحرية، لقد تحمّلنا هذا الوضع لعقود من الزمن، وعلى الرغم من كل ذلك، تشبثنا بأملنا وتصميمنا على المقاومة.. ما لا يفهمه العالم هو أن للشعب الفلسطيني الحق في استخدام المقاومة بشتى الوسائل الممكنة من أجل الحرية والدفاع عن نفسه ضد العدوان الإسرائيلي، والواقع أن العديد من أولئك الذين يدينون هجمات فصائل المقاومة الفلسطينية حالياً يلتزمون الصمت التام بينما ترتكب إسرائيل جرائم لا توصف ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك فرض العقاب الجماعي ضد سكان غزة. إن أي تحليل أو تعليق يفشل في الاعتراف بهذه الحقيقة ليس فقط أجوف، بل إنه غير أخلاقي أيضاً ومهين للإنسانية”.
مهما كانت نتيجة هذه الحلقة الحالية من نضال فلسطين المطول من أجل التحرّر من الاستعمار الاستيطاني العنصري، والمذبحة التي ترتكبها إسرائيل الآن، لا بدّ من الإشارة إلى أن المقاومة الفلسطينية، التي تعمل في ظل الظروف الأقل تفضيلاً، قد نقلت تكتيكات الحرب إلى مستويات جديدة، وهذه القدرة والتصميم يجب أن يفهمها الكيان الإسرائيلي الظالم. كما يتوجّب على اليهود في مختلف أنحاء العالم أن يتذكروا الجرأة والازدراء بالموت لأولئك الذين شاركوا في انتفاضة غيتو وارسو ضد النازية، حيث فضّل المعتقلون الموت أثناء القتال بدلاً من تحمّل الموت أحياء أو اقتيادهم إلى الذبح مثل الحيوانات، ويتذكر المرء هنا جرأة وازدراء الموت من قبل الشعب الفلسطيني الذي واجه بنادق العدو بأيديه.
وفي هذه المرحلة من المعركة، من المؤكد أن المقاومة الفلسطينية تملك ورقة رابحة هي ورقة الأسرى الذين تحتجزهم لمبادلتهم بالمعتقلين في السجون الإسرائيلية، بمن فيهم النساء والأطفال.
وإذا كانت إسرائيل مهتمة بهؤلاء المختطفين، فيتعيّن عليها أن تخفّف عنهم وعن أسرهم المحنة في أسرع وقت ممكن، وأن تضع حداً للهجوم الوحشي على غزة، وتتفاوض على تبادل الأسرى. كما لا ينبغي لأحد أن يستمتع بالمعاناة الإنسانية، لكن مسؤولية الموت والدمار تقع على عاتق المسؤولين عن القمع، ولا يمكن انتظار الشفقة من أولئك الذين سجنوا في أبشع الظروف التي فرضتها “إسرائيل” طوال هذه السنوات من المعاناة القاسية.
وكما كانت الحال مع النضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، يحتاج المجتمع الدولي إلى تعزيز التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، ووقف التحالف غير المقدس بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” في مسار حرب انتقامية لمحو غزة.