“أدونيس وهج الحداثة الشّعرية” والمقلّدون وقعوا في متاعب لغوية وبلاغية
البعث الأسبوعية- نجوى صليبه
يتهّيب كثيرون البحث في شعر علي أحمد سعيد إسبر الذي “أدونيس” وتناوله بالقراءة أو النّقد، لأنّ الخوض في هذا البحر بحاجة إلى سبّاح ماهر، والوقوف على شطه الصّخري بحاجة إلى نحّات محترف، وهذا ما تؤكّده الكاتبة رجاء شاهين في مقدمة كتابها “أدونيس وهج الحداثة الشّعرية” الصّادر عن اتّحاد الكتّاب العرب ـ سلسلة الدّراسات 2023، إذ تقول: “أن تكتب عن أدونيس يعني أن تتقن فنّ التّخارج من شرانقك وقواقعك الفكرية، وأن تتزوّد بإزميل معرفي مشحوذ بشفرة السّؤال الدّائم الإزهار، وأن تجيد فنّ الغربلة والتّعزيل والفرز للزّؤان من الحنطة، وأن تكون جريئاً في التّخلي عن عباءتك الكلاسيكية وأن تلقّمها النّار وتعيد نسجها من جديد”.. لكن هل من الممكن أن تصل جرأة الكتابة عن “أدونيس” إلى مستوى جرأة ابن الثّامنة الذي أبى أن يستقبل الرّئيس شكري قوتلي إلّا بقصيدة استخدم الرّئيس، لاحقاً، شطراً من أحد أبياتها في إحدى خطبه؟، تقول شاهين في الفصل الأوّل الذي خصصته للحديث عن الشّعر والتّجديد والحداثة: “تطوّر الشّعر في حركة التّجديد، غير أنّ الكثيرين تواطؤوا على القول إنّ الشّعر في تقهقر، وإنّ كثيرين من محبّي هذا التّجديد قد رأوا فيه دوراً مرسوماً للتّحريض والحماسة.. أملك الشّجاعة للقول: إنّ الشّعر كلّه في تقهقر في الآداب كلّها، وإنّ المسؤولية تقريباً تقع على التّجديد والحداثة في أغلب أشكالها، لأنّ الشّعر قد لحق وواكب ثقافة تشكيكية متشائمة، وغاب عن دوره في زرع الأمل والفرح، وأنّ الشّعر الجديد انطلق عندنا مثل أي موج فنّي افترض واجدوه أنّه قد يكون المنقذ” إلى قولها: “لن أسبح ضدّ التّيار، ولن أتحيّز في نقدي وقراءتي، بل سأصوغ بكتاباتي ما تراه عيني وبصيرتي من خلال ثقافتي وموروثي بعذابات النّصّ وألفاظه، وبسحر البيان ونكهة الرّمز ولمحة الإشارة”.
وتستطرد شاهين في الفصل الثّاني من كتابها والذي جاء تحت عنوان “أدونيس واختراق المألوف” بحديثها عن النّقد العربي، وما له وما عليه، وتقصيره في متابعة الإنتاج الإبداعي والتّوغل فيه، ولا سيّما الشّعر والنّقد في الحداثة، كما تقف عند بعض الأمور التي يجب أن يضعها النّاقد في حسبانه، إلى أن نقرأ أخيراً: “نلاحظ في المعروض على السّاحة الشّعرية من النّصوص بعض الآراء والاتّجاهات الفردية لدى الشّعراء، المحددة سلفاً بعناوين لفظية في التّحديث والتغيير من دون أي أفكار تفصيلية لتأكيد تك الاتّجاهات وتوظيفها لخلق ثورة لغوية لا تكتفي بالاسم فقط، وذلك لصنع حرك شعريّة ذات اتّجاهات محددة، لكنّ للأسف بقيت هذه الاتّجاهات الفردية ضمن خيار الضّياع بين الشّكلانية والاستبدادية، ولما حصر الشّعر في خصوصيته استبعاد الواقع والخارج، انحصرت الحداثة الشّعرية بمفهوم ضيّق أنتج “صراع التّناقضات” المركوز في المونولوغ الدّاخلي والتّقريب والتّجريب اللغوي، وهذه رؤية غريبة سيطرت على معظم شعراء الحداثة، فيرى أدونيس أنّ كتابة الشّعر هي قراءة للعالم، وهي قراءة في بعض مستوياتها مشحونة بالكلام، والكلام مشحون بالأشياء، وسرّ الشّعرية هو أن تظلّ دائماً كلاماً بكلام، لكي تقدر أن تسمّي العالم وأشياءه بأسماء جديدة ـ أي تراها في ضوء جديد، ويقول: اللغة هنا لا تبتكر الشّيء وحده، إنّما تبتكر ذاتها فيما تبتكره، والشّعر هو حيث الكلمة تتجاوز نفسها مفلتة من حدود حروفها، وحيث الشّيء يأخذ صورة جديدة ومعنى آخر”، ويتّضح من هذه السّيطرة أنّ أدونيس معنيّ بحلم شعراء “شعر”، إلى قولها: “الموجة الأدونيسية وإشكالياتها كانت الأقدر في إيجاد حداثة ذات عراقة كلاسيكية تحرر اللغة من أي إدانة، باستثمارها إلى أقصى حدّ في البناء وتوظيفها لخدمة الغرض الشّعري، باكتناه لجوهر المدلول وطاقته في التّحوّل والتّغيير، وتحررها من كلّ تزمين بتمكينها بثّ الفعل المقصود الآمن من المحدودية بترسيمه لما كان ويكون ولا يزال فعلاً مستمراً”.
وتضيف شاهين: “لقد نشط أدونيس في اختراق المألوف من الأشياء وجنح عميقاً في اختراقه وسعيه إلى رؤية الأبدية والحقيقة الكونية، فبذل جهوداً مضاعفةً لتهشيم الحواجز القائمة بين الواقعي والأسطوري، بين المهيم والمتماسك، حتّى استطاع الوصول إلى معادلةٍ دقيقةٍ بمزجه الرّومانسي مع الصّوفي، فأنتج علوّاً في روحه الباطنة الجموحة نحو الحقيقة الشّمولية، وبحث في أسرارها، ولما كثر شعراء الحداثة والمقلّدون للأدونيسية، ولأنّهم لم يفهموا ما هي الحداثة وماذا يكتب أدونيس، فقد وقعوا في متاهات كبيرة وأخطاء كثيرة أدّت إلى تمحل لغوي وهذيان غير إيقاعي وإنتاج لغوي وشعري بلا أي نظم، فوصلت بهم هذه الكتابة إلى إحباطات نفسيّة ووقعوا في متاعب لغوية وبلاغية فضلاً عن الفنّية”.
ولأنّ التّقليد أعمى في ـ غالبيته ـ تبيّن شاهين: “أدّى هذا التّقليد والتّكرار للأدونيسية في كلّ مكان بفهم وبغيره إلى ثقل شعريّ أنتج تصوّراتٍ نأت عن اللغة والموضوع والفكرة والصّورة، ما أدخل النّصوص المنتجة دائرة العجز والفصام، وصراع الادّعاءات فوق الشّعرية والفكرية والشّكلية والدّلالية الزّاعمة المزعومة، حتّى أصبح التّرجيع اللغوي متحوّلاً فاقداً أصالته فعاد ذاكرة ثانية مملوءة بأصوات طلسميّة”.
وتعترف شاهين بمخالفتها من سبقها من نقّاد يقولون بتحطيم الشّعر الحديث لسلطة اللغة وعدم اعتماده على الموروث، وتقول: “تجربة أدونيس الشّعرية أخذت بسلطة اللغة المتّصلة اتّصالاً حميماً بالتّراث، فاستثمرت كلّ العناصر القائمة فيهما، وأخضعت مصطلحاتها في عملية التّحديث.. أدونيس شاعر كبير ومخادع يصرّح بشيء ويفعل عكسه، فيفتح إشكاليات وصراعات للآخرين تشغلهم عمّا يريده، لذلك تراه سائراً في تجربته المتّصلة بجذوره من دون الالتفات إلى ما يقوله الآخرون، كما أنّه وجد لغةً أكثر حركية متعددة الطّبقات، وعمد في أكثر الأحيان إلى تفصيحها، وصالح العامية أحياناً أخرى، وأوجد لغة متعددة الطّبقات ترتاح للتّوليد اللغوي وتحتاج لطبقات المعنى المتعددة واحتمالاتها، لغة مرسومة ليس في ظاهرها فحسب، بل في ما ورائها أو إيحائها، فيها التّوهيم والسّحر والبذخ الخيالي والإيماء الخفي”.
وتنتقل الكاتبة إلى “القفزة النّوعية للفنّي وإبداع جمال صورة المادّة الشّعرية” عند أدونيس فتقول: “عمل أدونيس طويلاً على وعي المتلقّي الذي صودر تصوّره، والذي تربّى عبر عصور طويلة على سلطة الموروث.. وأغلب الأعمال الأدونيسية الشّعرية وجّهت وعي القارئ إلى التّأمّل في طبيعة الشّعر ليؤسس مع أدونيس ذاكرةً ومكنوناً يدعوه إلى إعادة النّظر في كلّ تراكمات الماضي.. لقد ذهب أدونيس في تصوير تجربته إلى التّعبير الدّرامي، واعتمد على الحوار الدّاخلي من خلال السّرد كاشفاً عن صوت جديد يثير الإغراء والتّساؤل عن طريق التّنقّل بالخطاب السّردي للتّعبير عن الذّات الكبيرة عنده ثمّ الذّوات الأخرى الموجودة حسب الطّلب، والثّانوية بالنّسبة إليه.. إذاً، بدأ أدونيس فصلاً جديداً من حياته، حين أسند لذاته دخوله في ذاته، وفي كيفية توظيف الرّمز والأسطورة بقوّة تمييزية لا تتناقض منطقياً أو ماهوياً مع عدم اكتمال المعنى.. لقد أحدث صدمةً في هذا الفصل الجديد من حياته، حين خلخل مفاهيم ثابتة مستقرّة، جمالية وشعريةً ومعرفيةً، من خلال التّمرّد على الماضي بما يحمله من سلطة طغيان وسلبية، ومن خلال التّشكيك بجدوى الموقف الإيماني اليقيني من العالم بفلسفته غير المكتملة ومن خلال اختياره اللغةً المتعالية أي لغة اللغة التي تتناقض إلى حدّ كبير مع المحاكاة، وبما أنّه يذهب إلى حدّ اعتبار الشّعر نوعاً خاصّاً من المعرفة، فقد لزم أن يختار موضوعاته من الواقع الخارجي تلبيةً لنداءات حياته الدّاخلية معرفياً، حتّى يلبّي طموحاته الفنّية والفكرية ومعارجه الرّوحية”.
وتختم رجاء شاهين دراستها بالقول: “نستخلص من هذه التّجربة الأدونيسية أنّ الشّعرية تمارس حسّها الفيّاض الشّديد العمق والتّوتّر، وتمارس الاختيار إيقاعاً ومفردات وبناء، لتصوغ عالماً خاصّاً، تصطخب بداخلها حركة الحياة الكونية، ورصيد هذه الشّعرية من الرّؤية كبير وهائل وقادر على تحريك اللحظة الزّمانية، وإنتاج اللقطة الارتدادية، ومحو الحدود بين السّلسلة الثّلاثية للزّمن”.
تستعين شاهين في دراستها باثنين وثمانين مرجعاً، معظمها صادر عن دور نشر في مصر أو العراق أو لبنان، ربّما لهذا أكّدت على مبادرة الاتّحاد في المقدمة وأعادت طباعة ما ذكرته حولها على الغلاف، تقول: “لعلّ مبادرة اتّحاد الكتّاب العرب هذه تشكّل انزياحاً مهمّاً في وعي المؤسسات الثّقافية الرّسمية لقيمة المثقّف العضوي الذي يمثّله أدونيس وأمثاله، والتي نأمل أن تكون الحلقة الأولى في سلسلة الانزياحات المتتالية، والمبادرة الملهمة للآخرين في خلخلة توضع جبل الجليد المخيّم على جسد الثّقافة العربية عموماً”.