مجلة البعث الأسبوعية

خرافة أرض الميعاد.. ادعاءات كاذبة لتسويغ الأطماع الاستيطانية

البعث الأسبوعية- د.معن منيف سليمان

تتناول التوراة الأرض التي أعطاها الإله يهوه لأبرام ونسله من بعده وتحدّدها بأنها كل موضع تدوسه بطون أقدامهم من البرية ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات إلى البحر الغربي. ذلك لأن إبراهيم سمع لقول الرب وحفظ ما يحفظ له أوامره وفرائضه وشرائعه، وجزاءً له فإن الرب يطرد جميع هؤلاء الشعوب من أمام نسله إسحاق يعقوب وموسى وكل بني إسرائيل فيرثون شعوباً أكبر وأعظم منهم في الأرض التي اختارها لهم تفيض لبناً وعسلاً هي من أخصب جميع الأراضي. فيقتسمون هذه الأرض بين أسباط إسرائيل بالقرعة لهم وللغرباء المتغربين الذين ينزلون بين ظهرانيهم.

لقد نزح أولاد يعقوب الذين بلغ عددهم بضع عشرات إلى مصر في 1656 ق.م، حيث بقوا في مصر مدّة قصيرة تعادل 400 عام. ثم خرجت هذه المجموعة من مصر بقيادة النبي موسى هرباً من الاضطهاد الفرعوني ، حيث ساد نظام العبودية، أي أن الاضطهاد كان شاملاً لعامة الشعب، لا سيما القادمون من خارج البلاد، فعبروا الصحراء نحو عام 1290 ق.م، وأرسلوا إلى أرض كنعان رسلاً، كان يشوع بن نون أحدهم لاستطلاع أحوالها، فعادوا يخبرون بأن المنطقة يسكنها قوم أشداء فخذلوا موسى وتركوه.

وخلال هذه المرحلة، عمل موسى على قيادة هذه المجموعة، بحكم الدين الذي أوحى له به في مدين الواقعة جنوب سيناء، فلقي كل عنت من قومه، الذين أصرّوا على عبادة الأوثان، وعلى العودة إلى مصر. وقد أطلق على تلك المرحلة اسم ” المرحلة الموسوية” بسبب تأثرهم الكبير بالحضارة المصرية، حيث طغى عليهم طابع هذه الحضارة بسائر جوانبها تقريباً الثقافية واللغوية والدينية والفنية.

وبعد وفاة موسى، تولى قيادة بني إسرائيل يشوع بن نون الذي سعى إلى غزو المدن الكنعانية، بدءاً من الضعيفة فيها. ومع ذلك لم تخضع البلاد كلها ليشوع، بل بقي الساحل من عكا إلى سيناء في أيدي الكنعانيين كذلك بقيت السهول من عكا وبيسان وشمال يافا والقدس في أيدي أصحابها الكنعانيين والعموريين والفلسطينيين.

إذن، بقيت معظم البلاد، بخاصة السواحل والسهول والأراضي الخصبة في أيدي السكان الأصليين شعباً وحكومات. ويعتقد أن عدد الغزاة الإسرائيليين كان قليلاً مقابل عدد السكان الأصليين، وكانت الطريقة التي اتبعها يشوع في توزيع الأراضي بين جماعته اقتلاع أصحاب الأملاك من بيوتهم وأراضيهم بالحرب والضرب وهذا ما ذكر آنفاً في سفر يشوع حين قال الرب:” أنا لا أطردهم من أمام بني إسرائيل، وإنما قسمها بالقرعة لإسرائيل ملكاً كما أمرتك”.

وبعد ذلك مات يشوع ولم يتمكن الإسرائيلون من احتلال القدس وبقيت هذه المدينة غريبة لا يسكنها أحد من بني إسرائيل حتى أيام داود النبي الذي تولى الحكم بعد شاول الذي لم يحكم إلا جزءاً صغيراً من فلسطين. وعلى الرغم من بعض الانتصارات الجزئية على السكان الأصليين، الكنعانيين، والعموريين والفلسطينيين، فقد بقيت مناطق الفلسطينيين مستقلة عن حكم داود الذي استقر في حبرون ” الخليل”. ثم تمكن فيما بعد من إخضاع القدس عام 1000ق.م، وانتزعها من أهلها اليبوسيين، وجعلها عاصمة لمملكته، بحكم أهميتها الدينية التي تعود إلى ما يقرب من أربعة آلاف سنة، وعلى وجود الكنعانيين أو غيرهم ممن خرج من قلب الجزيرة العربية نحو خمسة آلاف أو ستة آلاف سنة.

كان داود في أثناء حكمه خاضعاً للفينيقيين الكنعانيين في لبنان وساحل فلسطين الشمالي، كما كان خاضعاً للحكام المصريين، وعمل داود على توسيع الرقعة التي بدأ يحكمها، فبلغ جبل الكرمل شمالاً والخليل جنوباً، ولكن الساحل من شمالي يافا إلى جنوبي غزة بقي بيد الفلسطينيين، وإن كان بدوره خاضعاً لمصر. ولم يحكم داود ساحل فلسطين شمالي عكا، فقد كان هذا مع ساحل لبنان بيد الفينيقيين الكنعانيين وبعد وفاته تسلّم الحكم ابنه سليمان.

كان حكم سليمان أكثر ازدهاراً وأوسع آفاقاً، ومع أن مملكته امتدّت إلى جهات من سيناء وسورية، فإنه لم يستطع السيطرة على فلسطين بكاملها ولم يشكل الإسرائيلون الأكثرية، بل ظلّ عددهم أقل من السكان الأصليين. وهو ما ذكرته بعض المصادر التاريخية بأن الحكم الحقيقي لمملكة القدس لم يزد على حكم مملكة كبرى من ممالك المدن الكنعانية، التي لا تزيد مساحتها على بضعة مئات من الكيلومترات المربعة.

وكان سليمان مثل أبيه من قبله خاضعاً لصور من جهة ولمصر من جهة أخرى وفي أثناء حكمه ضم حيرام ملك صور مدناً عديدة من مدن فلسطين الشمالية إلى ملكه بعد أن كانت تابعة لملك سليمان.

وفي الواقع إن المجد الذي بلغه سليمان لم يكن إلا ملكاً صغيراً خاضعاً لغيره في مدينة صغيرة. وكانت قوته متزايلة، إلى حدّ أنه لم تمضِ سنوات قليلة على موته حتى تمكن الفرعون شيشنق من الاستيلاء على القدس ونهب معظم ثروتها ومعالم ازدهارها.

بعد موت سليمان انقسمت مملكته وضعف شأنها نتيجة الصراع الداخلي بين أسباط بني إسرائيل من جهة، ونتيجة الهجمات المتكرّرة عليها من الخارج، إضافة إلى مقاومة السكان الأصليين لبني إسرائيل، ولم يمض نحو خمسين سنة على موت سليمان حتى استعاد اليبوسيون القدس في 895 ق.م واستولوا على خزائنها وحكموها مدّة من الزمن.

وبعد ذلك انقسمت المملكة إلى قسمين: أحدهما في الشمال، وعرف بمملكة إسرائيل وعاصمته السامرة بجوار نابلس، واستمرّ حكم المملكة تلك بين 923 ـ 722 ق.م. وأما الآخر في الجنوب، وعرف بمملكة يهوذا وعاصمته القدس واستمرّ حكم المملكة بين 923 ـ 586 ق.م.

دامت مملكة الشمال نحو قرنين، قضت معظمها في حروب مع الآشوريين، فالتحق قسم من بني إسرائيل بمملكة الجنوب، في حين ظلّ القسم الآخر تحت الحكم الآشوري، يدفع الجزية، وكانت نهاية المملكة على يد الأشوريين عام 722 ق.م، حيث كان السبي البابلي الأول إلى العراق.

أما مملكة الجنوب، فقد دامت نحو أربعة قرون، عاشت فيها 136 عاماً، بعد خراب مملكة الشمال، كانت خلالها في صراع دائم مع مختلف الأقوام المجاورة من المؤابيين والعموريين والفلسطينيين والكنعانيين وغيرهم. وبعد أن سيطر المصريون على الآشوريين، خضعت مملكة الجنوب لهم عام 608 ق.م، لكن الكلدانيين سرعان ما تمكنوا من التغلّب على المصريين، ووقعت فلسطين تحت حكمهم عام 605 ق.م، وكانت نهاية مملكة الجنوب في عهد نبوخذ نصر عام 586 ق.م، الذي نفى زعماء المملكة وقسماً من سكانها إلى بابل وهو ما عرف في التاريخ القديم باسم ” السبي البابلي” الثاني وأصبحت القدس بعد ذلك تابعة للكلدانيين الذين كانوا قد ورثوا مملكة آشور فيما بين النهرين.

كان تاريخ ملوك إسرائيل ويهوذا على حد قول ويلز:” تاريخ دولتين صغيرتين واقعتين بين شقي رحى، أحدهما في الشمال ( سورية ثم آشور ثم بابل )، والآخر في الجنوب ( مصر ). وكانت قصتهم فواجع لا تنتهي إلا بفواجع. قصة ملوك بربريين يحكمون شعباً بربرياً … إن الحقيقة البسيطة هي أن الإسرائيليين ذهبوا إلى بابل بربريين وعادوا منها متحضرين”.

بعد سقوط المملكة البابلية الكلدانية- العصر البابلي الحديث- احتل الفرس الإخمينيون المنطقة العربية، وبعد استيلاء كورش ملك الفرس على بلاد الشام، سمح لمن يرغب من بني إسرائيل بالعودة إلى القدس عام 537 ق.م، أي بعد انقضاء سبعين عاماً على السبي البابلي الثاني.

كان عدد الراجعين من بني إسرائيل نحو / 42000 / قد واجهوا مشكلة هي أن الأدوميين قد شغلوا الأراضي التي أرادوا أن يقبعوا فيها، وهذا حال دون إعادة بناء هيكل سليمان المزعوم من جديد.

وتنتهي عند هذا الحد، قصة حكم اليهود في فلسطين، فلما عادوا من الأسر البابلي الثاني، لم يكن لهم شأن سياسي، وظلّت محاولاتهم للاستيلاء على الأرض تحت ضغط المقاومة المستمرّة التي أبداها السكان الأصليون الكنعانيون وبعض من بقي فيها من الحثيين والفلسطينيين، وتحت رحمة الغزاة المتحكمين من الفرس واليونان والرومان. وعند هذه المرحلة يتوزّع اليهود في فلسطين بأعداد قليلة مختلطين بالسكان الأصليين تماماً، كما أصبح حالهم في بلدان العالم الأخرى.

وبناءً على ذلك كله فإن مقولة ” فلسطين أرض الميعاد” وكذلك ” الحق التاريخي” و” التراث الثقافي”، لا صحة لها، لأن العودة المقصودة انتهت مع زمنها وظروفها، ولم يبق إلا الادعاءات الكاذبة لعودة اليهود إلى فلسطين العربية لتسويغ الأطماع الاستعمارية الصيهونية الاستيطانية.