ناس ومطارح.. لينا نبيعة.. عن المدن والطفولة.. عن المسرح والحياة
تمّام بركات
ما يجمعها باللاذقية، ليس هو بالضبط، ما يجمع امرأة بالمدينة التي ولدت وكبرت فيها، وإن يكن يتقاطع معه بالرؤية.
الأرصفة والشوارع، البيوت، حتى عرائش الياسمين، -التي تبدو كما لو أنها تتسلق حافة الشرفة لتهرب-، لها عند الفنانة المسرحية لينا نبيعة، توصيفها وتعريفها الخاص، وإن كان أهل المدن أدرى بشعابها، فأهل المسرح، أدرى بالتفاصيل التي تكون تلك الشعاب، لذا فإن جولة من استراد الجمهورية، إلى المسرح القومي، الذي يقع في قلب المدينة، تغدو مفرداتها، نصوصاً أدبية رشيقة، تعيد فيها “ريم” ترتيب المدينة كما رأتها اليوم، وقد يكون ترتيباً مختلفاً، عن الترتيب السابق أو التالي، لكنه بكل تأكيد، منفعل عن تصورات فنانة مسرحية، وكاتبة صاحبة حساسية خاصة، لذا فهو صادق، وخاص، وحقيقي، أما ما يجمعها باللاذقية، فهو أكثر خصوصية.
لا مدينة بلا مسرح، المسرح رئة المدينة، متنفس أهلها وبرلمانها الحر، ورغم أن هذه “الفلسفة” لم تكن في حسبانها وهي تقع في غرامه، إلا أنها صارت من الحقائق، التي لمستها لينا بالتجربة الحية والنابضة، بعد أن صار المسرح عالمها الخاص والعام معا، وخشبته صديقتها، ولتبدأ علاقتها باللاذقية تتخذ طابعاً واقعياً، دون أن تتنازل عن السحري فيها، انطلاقاً من المسرح، الذي كان بوابة هذا السحر العظمى، وصار أيضاً مختبراً للواقع، فيه تعرفت لينا على مدينتها كما لما تعرفها من قبل، وراحت تتلمس تلك الملامح التي لا تظهرها المدن إلا لمن عرف أن ثمة فرق كبير بين الضحكات “السياحية” والضحكات المشغولة بسنارة اليومي والمحلي والمعاش.
هذا ما التقطته عدسة نبيعة الداخلية، من الجمهور يشاهد ويراقب وينظر، من ردود فعله على كل ما يراه ويعنيه، سواء كان تراجيديا أو كوميديا، من رفاق الخشبة، يعكس كل شيء فيهم، حتى مزاحهم، دواخلهم وما يعتمل فيها، من حالتها المزاجية نفسها المرتبطة بالحياة العملية ونوازع الوجداني فيها للثوران، حالات مختلفة ومتعددة الدلالات، صدرتها لينا كممثلة للجمهور، ثم صدرتها لنسفها كجمهور أيضاً.
تزوجت خريجة كلية التربية-جامعة دمشق-من الفنان المسرحي المخضرم فايز صبوح، وفي الوقت الذي تعاني فيه النساء من اكتئاب فترة ما بعد الولادة، كانت ريم تراقب بدهشة طفلة، حمزة وشام، ومن طفولتهما التي أعادتها طفلة، عرفت لينا ما الذي يجمعها بمدينتها، وبقي أن تعلم كيف تجعل ما بينهما بمثابة “وحدة حال” وأيضاً من طفليها جاء الجواب، “مسرح الطفل”، وهو ما راحت تشتغل عليه بصمت وهدوء وصبر أم، مؤمنة بأنها تتشارك مدينتها بواجب عظيم، تنشئة الأطفال على قيم المسرح ومثله العليا، وفعلاً صارت الفكرة أمراً واقعاً، وها هي في كل سنة دراسية جديدة، مع دفعة جديدة من طلابها المسرحيين الصغار.
انطلاقة المشروع كانت خجولة نوعاً ما، من نادي “المبدع الصغير” ثم نضجت وبدأ العمل عليها بشكل جدي وفعلي في جمعية “أرسم حلمي” الفنية بمساعدة ودعم من الفنانة التشكيلية هيام سلمان رئيسة الجمعية، وكان لا بد من مجموعة من النقاط التي يجب أن تسود روح هذا المشروع ليكون فاعلاً، وفي المقام الأول أن يكون الطفل، هو بطل العرض الحقيقي، هو روح العرض، ولا بد من تعميم “ثقافة المسرح”، تقول لينا: “تخيل أن تعمل مع شريحة من الأطفال أغلبهم لم يذهبوا للمسرح ولا مرة هم وذويهم، أطفال لا يعرفون معنى خشبة مسرح أو ستارة أو ديكور، باختصار في البداية كل شيء كان يتم بمجال افتراضي، وبعد جهد وصلنا لمرحلة البناء أو الكسوة، والتي جاءت حرفياً من “لحم ودم”، فكان العرض الأول في مهرجان “أرسم حلمي” حيث كان العرض ختاماً للمهرجان في يومه الأخير، وتوالت العروض حتى قدمت لينا طلابها أكثر من عرض مسرحي، خلال خمس سنوات، بحيث يكون العرض بمثابة تخريج دفعة من طلاب المسرح في الجمعية، وقدموا العروض على خشبة مسرح دار الأسد للثقافة في اللاذقية”.
لاقت الفكرة قبول أكثر من مركز لتعليم الأطفال، وصارت حصة المسرح من الحصص التي وضعتها هذه المراكز في خططها التدريسية، والجميل لدى لينا هو وصولها لنتائج مهمة كانت قد وضعتها كأهداف للمشروع الذي وجدت أنه يجعلها ومدينتها التي تحب، متكاملتان ومنسجمتان في المسعى والغاية.
“هذه المدينة وأطفالها يستحقون منا الكثير في شتى المجالات والفنون” أمنت لينا في هذا، والمشروع الذي كان فكرة وحلم، ثم صار واقعاً وحقيقة، لم يزل في بدايته، كما المدينة طفلة أبداً، كما الأنوثة والأمومة والحياة.