هل انتهت الحرب الباردة؟
د. عبد اللطيف عمران:
لا ينطبق مصطلح الحرب الباردة على وصف الصراع الراهن في عالم اليوم، مع ما يجري في غزة، فتصريحات قادة الكيان الصهيوني المقترنة بدعم أمريكي صارخ ووقح لا تتلافى ولا تخشى امتدادات الحرب على غزة إلى جبهات أخرى في المنطقة، بل تعرب عن استعدادها لخوض ومواجهة هذه الامتدادات، ولا تبالي بالتحذيرات من هذه الامتدادات الصادرة عن عدة مسؤولين في المنطقة والعالم….وهذا ما يرجّح كفّة التصعيد في المنطقة من حرب باردة إلى ساخنة وممتدة.
ويشير مصطلح الحرب الباردة إلى طبيعة العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي بدأت منذ أن أعلن عام 1947 جوزيف ستالين رئيس الاتحاد السوفييتي السابق امتلاك بلاده القنبلة الذرية بعد أن كانت الولايات المتحدة قد امتلكتها وقصفت بها اليابان عام 1944 فبرز معسكران دوليان الأول ممثلاً بحلف الأطلسي والدول الرأسمالية تقوده الولايات المتحدة، والثاني كان ردة فعل هو حلف وارسو والدول الاشتراكية يقوده الاتحاد السوفييتي، فعرف العالم يومها حقبة التوازن الدولي أو القطبية الثنائية التي نشطت خلالها ونجحت حركة التحرر الوطني العربية والعالمية، هذه الحقبة التي عمل الغرب الجيوسياسي على تقويضها.
وانتهت هذه الحرب مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، لكن الغرب اغتنم هذه النهاية لتوسيع حلف الناتو، ولتعزيز القطبية الأحادية، ولترسيخ سياسة الهيمنة والتفرد، ولطفو استراتيجية المحافظين الجدد وطرح : من ليس معنا فهو ضدنا، فلم تمض ثلاثة عقود من الزمن حتى عاد مصطلح (الحرب الباردة الثانية أو الجديدة) ومستلزماته إلى الطاولة، بل إلى الواقع، فأسفرت الامبريالية، والنيوليبرالية عن وجه وحشي قاهر لمنجزات حركة التحرر الوطنية العربية والعالمية.
وهناك من يرى أن هذه العودة مقترنة بوقت قيام روسيا بعمليتها الخاصة في أوكرانيا مطلع العام الماضي، لكننا نجد تصريحاً للأمين العام للأمم المتحدة انطونيوغوتيرش يستخدم فيه هذا المصطلح في نيسان عام 2018 في التعليق على الأوضاع في سورية: (عادت الحرب الباردة بسبب الرغبة في الانتقام، ويجب العثور على آليات جديدة لتجنب تصعيد المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة، وخاصة في سورية)، التي كانت الحرب فيها غير باردة أبداً، وأكثر من باردة ومن إقليمية، بينما نجد اليوم حول غزة تصريحات لغوتيرش وغيره من الزعماء تشير إلى إمكانية انتهاء الحرب الباردة والدخول في حرب أكثر سخونة لم تتضح معالمها بعد، فهو يصرّح بالأمس ويحذّر من أن (الشرق الأوسط بات على شفير الهاوية)، والرئيس الإيراني يرى أن (الوضع في المنطقة ينذر باتساع نطاق الحرب إلى سائر الجبهات)، والرئيس بوتين عبّر عن (قلقه البالغ إزاء التصعيد على نطاق واسع للأعمال العدائية مصحوباً بزيادة كارثية بعدد الضحايا المدنيين وتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة). وبالمقابل الصهاينة والأمريكان وحلفاؤهما يطلقون تصريحات ساخنة ومشينة، فالسيناتور الجمهوري ليندسي غراهام يدعو لتكون الحرب في غزة حرباً دينية، ويطالب الإسرائيليين بتسوية غزة بالتراب، ووزيرة داخلية بريطانيا ترى مجرد حمل العلم الفلسطيني يمكن أن يكون تهمة إرهاب، وبايدن يهدد ويضغط ويصعّد عسكرياً ودبلوماسياً، إذ تستثمر إدارته في هذه الحرب الأبعاد الإقليمية والدولية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، ودينياً أيضاً وهذا تحول جديد في الحرب الباردة الجديدة فهناك الديبلوماسية الروحية، والاتفاقات الابراهيمية، والإرهاب والتطرف والتكفير، في سياق ثقافة إحيائية لتجييش الشعور والإنتماء الديني والمذهبي استغلالاً وتحويراً لطرح الفيلسوف العالمي المعاصر هابرماس حول ( أثر حضور الدين في الفضاء العام) وتسخير الدين لبرامج النيوليبرالية.
والواقع إن التحذيرات المحقّة من تطور الأوضاع في غزة إلى حرب إقليمية هي صحيحة، لكن متى كانت الحروب في هذه المنطقة حروباً إقليمية، لقد أضحت منذ وجود الكيان الصهيوني فيها حروباً عالمية وليست باردة كما يبدو اليوم.
الصهاينة والأمريكان يقودون حكومات الغرب كالقطعان ورغم أنف شعوبه نحو نهاية التاريخ التي لم تتحقق فيها نبوءات فوكوياما التي أطلقها عام 1989 معتبراً أن (الانتصار المطلق لليبرالية الاقتصادية والسياسية هو نهاية التاريخ). وها هي الحرب الباردة الجديدة التي بدت على شكل صراع استراتيجي بين الصين وروسيا وحلفائهما من جهة، والولايات المتحدة وعملائها من جهة ثانية، وكما يبدو من غزة تستعر لتتحول إلى ساخنة مع سيل من الأقوال والأفعال بين المعسكرين، لأن الحلول المقترحة من المعسكر الثاني للحرب في غزة وغيرها لن ترضي شعوب المنطقة، وستحرج حكوماتها، ويبدو أنها ستكون وعوداً وبمثابة عقود إذعان مؤقتة باطلة وفاشلة. فهناك حقوق مشروعة، وقضية مركزية وقضايا مصيرية، وقرارات شرعية دولية، وقانون دولي مغيّبة ولا تحظى بالتنفيذ ولا بالاحترام.
ولهذا تؤكد سورية – وكما ورد في بيان خارجيتها – وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني وقواه المناضلة ضد الإرهاب الصهيوني، بعد أن كان السيد الرئيس بشار الأسد قد اعتبر في استقباله وزير الخارجية الإيراني أن (جرائم الاحتلال الصهيوني ومجازره هي محاولة للضغط على الشعب الفلسطيني للتنازل عن حقوقه المشروعة… والمنطقة لن تشهد الاستقرار إذا استمر الكيان الصهيوني والدول الغربية بهذا الإنكار… فيجب على هذا الكيان تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالانسحاب من الأراضي المحتلة)، فبدون هذا لن تبقى الحرب في المنطقة حرباً باردة، ولن تكون الحروب فيها مجرد إقليمية.