حملوا براءتهم كفناً لأحلامهم
سلوى عباس
“قبل يومٍ واحدٍ كنا نلعبُ هنا، لكن أحلامَنا سبقتنا إلى السّماء ولحقناها”.. “نحنُ أَبناءُ الحياة أَيّ ذنبٍ أو جريرة للبراءات الصّغيرة؟ أبعدوا الأشباح عنَّا حاكموا كلّ الجناة”. حالات كثيرة لأطفال تحدوا مخرز العدو بعيونهم وحاولوا حتى آخر لحظة من حياتهم أن يدافعوا عن طفولتهم وحقهم في الحياة، كما هو حال أطفال مشفى المعمداني قبل ارتقاء أرواحهم إلى الجنة بساعات حيث كانوا يلعبون ويغنون وينظفون حدائق المشفى، وأيضاً المشهد المؤلم الذي صور طفلة لم يتجاوز عمرها الثالثة عشرة وهي تتحدث بعيون ملؤها الدمع والأسى والتحدي معاً أمام “مايكريفون” إحدى المحطات التي تنقل الوجع الفلسطيني وهي تناجي أرواح أطفال من عمرها خطفتهم همجية الاحتلال فتصف ما يجري بكلام يجرح الروح ويدمي القلب، طفلة لم تدرك معنى الحياة بعد، لكن الحرب أنضجتها مبكراً وسلبت منها طفولتها فقالت: “أسلحتهم تهطل علينا كالماء لأنها تنزل من أيد خائفة، أيد فاشلة، أيد كافرة”.
كم تحمل هذه الكلمات من دلالات ومعان لطفلة فتحت عينيها على أذى محدق بها وبأهلها وبشعبها، هذه الطفلة التي حلمت كما كثير من الأطفال بأيام مختلفة بملامحها عما مضى، أيام ترسم لها ولجيلها آفاقاً بأطياف ملونة تنسجها بخيالها وأمانيها الخضراء كربيع نثر وروده في أروقة الزمان والمكان ليفوح عطرها شذياً، لكن كيف لحلمها أن يقارب واقعاً جريحاً نازفاً ألماً وظلماً؟ كيف لهذه الطفلة أن تنعم بنور الحياة وهي التي تنام وتستيقظ على أصوات الانفجارات ونيرانها، وكيف لأحلامها أن تتصالح مع حالة القتل والدمار التي يعيشها وطنها.
ما هو ذنب أطفال مشفى المعمداني الذين حاولوا رغم كل القتل والدمار المحدق بهم أن يعيشوا الحياة كيمامات من بياض النهار أن تُسرق منهم فرحتهم بألعابهم التي لم تسمح لهم القذائف والتفجيرات أن يناجونها أحلامهم وشوقهم، هؤلاء الذين في غفلة من عمر الألم تحولوا على شاشة التلفاز إلى خبر عاجل، كانوا كعصافير أطبقت عليهم سحابة واستسلموا لغفوة أبدية، فالطفولة مستباحة براءتها والأمومة مطعونة في صميم الروح، والشباب مسروقة زهوره، والشيخوخة منتهكة حرمتها، وهؤلاء الأطفال لا ذنب لهم إلا أنهم جاؤوا إلى الحياة يحملون براءتهم كفناً يلف أحلامهم وأمانيهم التي أصبحت سياجاً من خوف ورهبة، هؤلاء الأطفال الذين يعيشون أيامهم حلماً يتبدى كطير أبيض كلما يمدون أيديهم إليه يتمادى في البعد ويقفل على سحابة مثقلة بالرصاص والقتل، الأمكنة موحشة والزمن بطيء، وأبناء فلسطين مازالوا رغم الحرب التي يعيشونها يرسمون صباحاتهم بدمائهم لملاقاة غدهم المشرق بالنصر، يتأبطون الشمس نبراساً يستمدون منها القوة، ويبقون عيونهم مفتوحة خوفاً من أن يغافلهم الغدر وهم نائمون، فذاكرتهم المثقلة بالألم تختزن الكثير من المشاهد المؤلمة التي ستبقى حاضرة في مخيلتهم ما شاءت لهم الحياة، فكيف يمكنهم بعد كل ما عاشوه ويعيشونه أن يستبدلوها بذاكرة جديدة لتاريخهم، ويعيدون تنظيم الزمن على غير ما كانوا يرغبون، وكيف يغادرون وطناً أطلقوا أرواحهم في مراميه وكل المسالك تسير بهم إليه، يعبرون نحوه بحراً من الحنين، وأمام كل هذا العذاب لم يكن أمامهم إلا يغلقوا باب عذاباتهم ويظلوا متمسكين بأرضهم التي رتبوا بديهياتهم ومسلماتهم على حمايتها والحفاظ عليها.
كيف لأطفال فلسطين، وهم أكثر المستهدفين بهذه الحرب أن يوقفوا شريط الذكريات التي استوطنت كيانهم، وأن ينسوا هدير القذائف وقصفها حين تعبر أصواتها فضاء أرواحهم، تمزق هدوء المكان حولهم وتصنع عاصفة ماطرة من القتل والتدمير؟ وما ذنب هؤلاء الأطفال ليقتحم الطغاة نومهم وأحلامهم ويعبثوا بليلهم ويشعلوا شمساً في عيونهم توقظ الكون في غير موعده؟ إلى ماذا سيحيلهم هذا الزمان البارد الذي سيأتي؟ وأي اتقاد سيضطرم في قلوبهم أمام هول المشاهد التي يعيشونها؟
هذه المشاهد المؤلمة التي نستعيد عبرها أعواماً من الخيبة والانهزام والعجز أمام أسئلة تطرحها عيونهم دون أن تلقى أجوبة لها.. أيام عاصفة بالخوف والموت يعيشها أبناء فلسطين وهم مهددون كل لحظة باغتيال أمانهم، لكن عيونهم معلقة بالسماء ترنو لغيوم الخلاص التي بهمة رجال الحق النبلاء ستمطر سلاماً وأماناً وستغسل آلام أرواحهم وعذاباتها، وترسم ليلهم ونهارهم وكل ما تبقى من أحلامهم.