الفنان علي الخالد.. تعامل مع الفن التشكيلي المستحدث برهافة التعبيرية ذات الطابع الشاعري
فيصل خرتش
تعتبر المحفورات التي أنجزها الفنان علي الخالد من أبرز اللوحات الغرافيكية التي ابتدعها الفن السوري في ميدان الحفر المطبوع، فقد تعامل مع هذا الفن المستحدث، الغني بتقنياته، المتميز برهافة أدواته وأبعاده التعبيرية ذات الطابع الشاعري.
وتجربته استمرت لأكثر من أربعة عقود أمضاها في فن الحفر والطباعة الحجرية، وقد تأكد ذلك منذ عودته من باريس ونيله شهادة الدكتوراه، حيث تسلَم رئاسة قسم الغرافيك.
إنَ فن الغرافيك يرجع إلى عام 1440 فقد استخدم الإنسان الألماني الحروف المتحركة على مكبس يدار بذراع حلزوني، ثمَ أعقبه الإنكليزي وليم جاكسون بطبعه الكتاب المقدس عام 1475، ثم جاءت طريقة الطباعة على الخشب والنحاس، وبعد ذلك انتشر هذا الفن.
ولد علي الخالد في مدينة تدمر عام 1944 والبادية السورية تعتبر الملهم له، وفي المدرسة الإعدادية ينتبه مدرس التربية الفنية إلى موهبته فيساهم في توجيهه ورعايته، ساعده في الرسم والتلوين وعلى رصد البيئة المحيطة به، ينقل المواضيع الواقعية التي أمامه عن طبيعة تدمر وهو مشدود إلى معالمها، وحين حصل على الثانوية ذهب إلى دمشق لدراسة التاريخ، لكنه غادرها في السنة التي تليها إلى كلية الفنون الجميلة، وقد ترسخ عند زملائه بأنه متميَز بالحفر أكثر من التصوير، فتابع فيه، وتخرَج من الكلية بدرجة امتياز شرف عام 1970 ، ثمَ عين معيداً فيها، وتسلَم رئاسة القسم بعد ذلك.
أوفد إلى باريس لمتابعة دراسته عام 1975 وخلالها أنجز كثيراً من الأعمال في مضمار فن الحفر، عاد إلى وطنه عام 1980 حاصلاً على شهادة الدكتوراه وعمل مدرساً لمادة الحفر في كلية الفنون الجميلة، وقد أقام معرضاً في صالة الشعب بدمشق عام 1981 وكان لهذا المعرض أثر كبير في تعرف الجمهور عليه وعلى إنتاجه، ثمَ تتابعت أعماله في المدن السورية حيث عرض فيها عدداً من الأعمال التي أنجزها في باريس ودمشق، والمتأمل لفن الحفر عند الفنان يلاحظ اهتمامه بالموضوعات الإنسانية ذات الأبعاد التراثية والاجتماعية، إنَه يستمد مادته من التراث، التي نراها في البيوت التدمرية، كما تتضمَن رموز القمر والهلال والشمس، وبعضها ما يستخدمه البدو في زينتهم (الكف – العين المضروبة بسهم – أنياب الذئاب).
والمواضيع الاجتماعية تكاد تكون حافلة بالنسوة وأزيائهن وملامحهن السمراء، وهنَ يسحبن النوق إلى غدران المياه، في حين تسافر الظعائن على الجمال عبر المفازات مبتعدة تبحث عن أماكن جديدة للحياة.
وكذلك نجد عنده المواضيع القومية، فهو يصوَر الأطفال وهم يرمون الحجارة على العدو، والفتاة التي قتلت في الجنوب اللبناني، ويصوَر الآلهة تقوم من أماكنها القديمة غاضبة ومستنكرة مما عمله الأمريكان في العراق.
إنَه يصوَر في حفرياته المدن التي أحبها (تدمر- دمشق – باريس – برشلونة) مستحضراً أبرز معالمها العمرانية، ويمكن أن نجد بعض المفردات التجريدية فهو يصوَر صدر الأم الطافح بالزينة ويعطيها الانفعالات.
فاز الفنان علي الخالد بالجائزة الأولى في مهرجان المحبة عن لوحته “القصف الظالم” التي يصوّر القصف على العراق، طائرات حربية ملأت أعلى اللوحة، وفي أسفل اللوحة مجموعة من آلهة بلاد الرافدين على شكل منحوتات حجرية، وهي تحتج على القصف لبلادها، وقد استخدم تقنيات الإسقاط الضوئي مظهراً القيم الجمالية والتعبيرية.
إنَه يميل إلى التكوينات الملحمية وفي الغالب تشغل الفراغ مجموعة من الأشكال المجردة يكون فيها للدائرة حضور لافت وهي حاضنة للأشكال البشرية، لوحة (لحظة الاقتحام) أو متضمنة دوائر أخرى فيها بعض الرموز، لوحة (رحيل الكواكب) تخرج منها مجموعة من الرسائل على شكل رقم مسمارية وأختام وكتابات قديمة، لوحة (الرسالة الأخيرة).
ولعل الشكل الدائري عنده يحمل معاني الاكتمال والغنى، وتبدو شخوصه مجتمعة في دائرة احتفالية وقد نهضت من نومها تمشي بين الأطلال، لوحة (الرسالة الأخيرة) وفيها يستحضر آلهة تدمر وملوكها وفرسانها وحكماءها وهم يطوفون بين أعمدة تدمر فوق ركام من الألواح والأختام إلى جانب الرسائل الحضارية التي أنجزها الإنسان.
يستحضر في لوحة (رحيل الكواكب) عدد من الحكماء في حيّز يفصله عن الكوكب المهاجر برزخ حافل من الإيحاءات والمآسي، وقد عالجها بفنية عالية ووضع لها حلولاً تشكيلية مناسبة، واللوحة عنده فيها رؤية فنية لما حفلت ذاكرته من مشاهد، إنّها أشبه بنافذة أسطورية تعالج الحياة برؤيا كونية شاملة.
وفي لوحته (نشوة النصر) تبدو ملكة تدمر وكأنها شجرة نخيل تقفز في الفضاء محاطة بمفردات مجرّدة، إنها تظهر إمكانياته وقدرته في إغناء الشكل وتوزيعه في منظومات بصرية، وقد يصل في لوحته إلى الترميز كما في لوحة (تمرّد) التي يعرض فيها موقف إبليس من آدم، إنَه يستعين ببقع لونية موحية بأشكال آدمية لتجسيد الموقف الذي يريد إبرازه.
وفي لوحته (صدر الأم) يقدم توازنات بين مجموعة من الكتل الدائرية والسطوح المربعة، ويضع فيها مجموعة من المفردات التراثية في محاولة يعبر فيها عن فكره وإحساسه. وفي (لحظة اقتحام) يصوَر اقتحام جيوش الرومان مدينة تدمر وخروج الملكة زنوبيا إلى السماء مع احتفاظه بعدد كبير من الرموز التدمرية، وقد برع الفنان في تدرجات الضوء وتركيزه على بؤرة الحدث.
لم يقتصر الفنان على تلك الموضوعات، وإنما أضاف إليها إيحاءات مستمدَة من الخط العربي، اعتمد فيها على الكتابة العربية ومدلولاتها الشكلية والمعنوية كما في اللوحة (داحس والغبراء) وفيها تتناثر بعض الحروف العربية في تشكيل عفوي متماسك، ورصّعت بعض الحروف على أرضية قاتمة، وأحيط هذا الشكل الحروفي بكتابات على شكل إطار من الكلمات التي توحي بكراهيته للقتال بين الأشقاء.
إنّ تجربة الفنان علي الخالد في فن الحفر والطباعة قد اتخذت أبعاداً مختلفة، من خلال المسيرة الحافلة بالتجارب الدائمة في الطباعة الحجرية والمعدنية، وغيرها، مفصحاً عن كلَ المخزونات البصرية والفكرية والروحية التي تفاعلت في داخله، وخرجت في صيغ فنّية مبتكرة وشغلت حيّزاً واسعاً من الحياة التشكيلية.