تهددها الأجور والقلّة.. كيف “ننتشل” موسيقانا من مشكلاتها؟
نجوى صليبه
إن بدأنا موضوعنا بنبذة تاريخية، سنقول إنّه وفي عام 1928 وبالقرب من مدينة اللاذقية وأثناء حراثة أحد الفلّاحين لأرضه، علقت سكّة محراثه بحجارة ضخمة، فحاول إبعادها ليكمل عمله، لكنّه اكتشف أنّها ليست حجارة عادية، بل هي سقف لمدفن أثري، أظهرت أعمال التّنقيب فيه ـ لاحقاًـ مملكة من أشهر الممالك السّورية في تاريخ الشّرق القديم، ويعرف هذا الموقع اليوم باسم رأس شمرا.
ومن الاكتشافات التي أعلن عنها في هذا الموقع أقدم نوتة موسيقية في العالم “أنشودة العبادة الأوغاريتية”، وهي لوحة مسمارية تعود إلى 3400 عام قبل الميلاد، وبحسب الباحث غسّان القيّم هي أقدم عمل موسيقي متكامل لُحّن في العالم، مبيناً أنّها اكتشفت في لوح صلصالي احتوى كلّ كلمات ترنيمة أغنية لـ نيغال آلهة الزّراعة.
وتتنوّع الرّوايات حول قصّة النّوتة أو موضوعها لكنّها لا تختلف كثيراً، فالقيّم يقول إنّ نيغال كانت حزينة بسبب عقمها مع أنّ زوجها الإله يرخ هو الذي كان يمنح الذّرية للأزواج، في حين يذكر عالم الموسيقا البريطاني “ريتشارد دومبريل” الذي ترجمها أنّها تحكي قصّة فتاة شابة لا تنجب وتظنّ أن عدم إنجابها كان بسبب إثم ما ارتكبته من دون أن يأتي اللوح على ذكره، كذلك الأمر، فقد قرأ الرّقيم الموسيقي باحثون عدّة، لكنّ أكثرهم أهميةً كان الباحث السّوري المولد راوول فيتالي 1927ـ 2003.
طبعاً لن نخوض بالمراحل التي مرّت فيها الموسيقا السّورية فيما بعد، كما أنّنا نخوض فيما قدّمه موسيقيون سوريون للبشرية بشكلٍ عام، لأنّه موضوع طويل، وأمّا هذه المقدمة فكانت تمهيداً للسّؤال الملّح: هل الموسيقا في بلد النوتة الأولى في خطر؟.
في الحقيقة هو ناقوس خطر دقّه من جديد المايسترو محمد زغلول الذي يوضّح: “عندما أقول الموسيقا السّورية في خطر، بمعنى نحن، اليوم، شريحة الموسيقيين في سورية، ولاسيّما الأكاديميين، ليست بالعدد الكبير، ولاحظنا خلال سنوات الحرب هجرة كبيرة لشبابنا وخبراتنا إلى أوروبا أو الدّول العربية، وهم من خيرة الموسيقيين، ونحن عندما نقول موسيقي، يعني أنّنا نتحدّث عن شخص تعب على ذاته سبع سنوات في دراسة الموسيقا وتخرّج من المعهد العالي ودخل الأوركسترا والفرق الوطنيّة، وأمّا أسباب الهجرة فعديدة ومنها الموضوع المادي والبحث عن لقمة العيش، فاليوم أرخص آلة موسيقية لا يقلّ سعرها عن الملايين، كذلك الأمر بالنّسبة لإكسسوارات بعض الآلات كالوترية مثلاً هناك الأوتار وشعر القوس، كذلك الآلات النّفخية لها إكسسواراتها، ونحن كأعضاء فرقة سيمفونية، تقوم دار الأوبرا بتأمين هذه المستلزمات لأعضاء الفرقة، كذلك المعهد العالي يقدّمها للطّلاب ضمن الإمكانيات المتاحة، لكنّها تبقى مرتفعة السّعر وتأمينها مكلف جداً سواء أكان عن طريق المعهد أو الدّولة أو الأوبرا.
ويضيف زغلول: “وتالياً، لم تعد أجور الحفلات والموسيقيين تتناسب والغلاء المعيشي، فالموسيقي لا يستطيع الوصول إلى الدّار عبر وسائل النّقل العادية، إلّا إذا كانت آلته صغيرة ويمكن حملها، أو كانت موجودة في الدّار، وفيما عدا ذلك سيضطر إلى التّنقل بسيارات الأجرة، وأجرة الحفل قد لا تغطي ذهابه وإيابه أكثر من مرّتين أو ثلاث، ببساطة شديدة قد تبلغ أجرة حفلة واحدة لفنّان أو نجم ما يعادل أجرة عشر حفلات أو عشرين حفلة كبيرة لأوركسترا، أي حفلة نجم واحد تغطّي تكاليف حفلات سنة كاملة للأوركسترا تتألّف من ثمانين شخصاً بين عازف ومغنٍّ، ليس هذا فحسب، فبسبب الرّوتين يمكن أن تتأخّر الأجور أكثر من عشرين يوماً وهذه مشكلة لأنّنا “ننام على سعر ونستيقظ على سعر”، وهنا أيضاً لا بدّ أن نذكر أيضاً أنّ النّجوم في الحفلات الخاصّة لا ينهون حفلهم قبل الحصول على أجورهم، كما أنّ بعضهم يعتذر بعد وصوله لأنّ الشّركة المنظّمة أخلّت ببنود العقد”.
بدوره، يضيف المايسترو نزيه أسعد: “طبعاً نقصد بالموسيقي، قائد الفرقة والعازف والمؤلّف والمغنّي.. وأنا كقائد فرقة موسيقية أعاني من عدم توافر كوادر وعدد كافٍ من الموسيقيين لإنجاز أي عمل أفكّر فيه، فهناك ندرة وقلّة في عدد العازفين لأنّهم يكونون مرتبطين بأكثر من مكان، أي لديهم مشاركات عديدة ومع فرق مختلفة، وتالياً لا يمكنهم الالتزام الكامل بالتّدريبات، هذا فضلاً عن تشتّت تركيزهم، وبالتّأكيد هناك معاناة أخرى تتمثّل بالأجور والأسعار بشكلٍ عام وبشكلٍ خاصّ للعازفين، لكن ليست معاناة أساسية، فكلّ النّاس تريد أن تأكل وتشرب، لكن بإمكاننا أن نؤدي عملاً نحبّه بأجور قليلة ونعوّضه بعملٍ مردوده المالي أو قيمته مالية أكبر فيما بعد.. الموسيقا محبّة وإحساس، وأنا لا يمكنني التّخلّي عن عمل أحبّ الاشتغال فيه أو موسيقا عالية ومهمّة أحبّ عزفها أو أحبّ قيادة الفرقة التي ستعزفها، على العكس أنا أتطوّع وأكابر على نفسي لكي أشتغل موسيقا جميلة، لكن الحقيقة هي معاناة التّكاليف، وهذا له علاقة بالمهنية الموسيقية، فالموسيقي يريد تأمين حياته، لكن المعنى العام للموسيقا أسمى من أن نوازيها بالأمور المالية، ففي التّاريخ أعظم الموسيقيين العالميين والعرب كانوا فقراء وأنجزوا أعمالاً مهمّة ما نزال نتذكرهم حتّى اليوم ونتعلّم منهم ونعلّم موسيقاهم.. الفقر ليس عيباً في الموسيقي لأنّه يخلّده أحياناً”.
ويشير أسعد إلى مشكلة العازفين والمغنين الهواة أو الأقلّ احترافاً، ويقول: “هؤلاء ليس لديهم مشاركات في فرق موسيقية كثيرة، لذا أنا أدعو رؤساء الفرق والمؤسّسات والمهتمين إلى توظيفهم وتدريبهم في فرق موسيقية مستواها وسط أو فوق الوسط أو جيّد أو تحت الجيّد، فهذه الفرق بعد سنة أو سنتين ستصبح محترفة إذا استمرّت بالتّدرّب بشكل صحيح، لأنّ الموسيقيين الأقل احترافاً يعانون عدم التّطبيق العملي ضمن فرقة، لذا أتمنّى أن يشتغلوا ويطوّروا ذواتهم في العزف الجماعي، بهذه الطّريقة يمكن إنقاذنا من مشكلة قلّة العازفين، طبعاً هذا بالإضافة إلى الاهتمام بتنشئة الجيل الحالي والقادم من المهتمين بالموسيقا أو الموهوبين أو الدّارسين تنشئة صحيحة وتدريبهم بشكلٍ صحيح، وإعطائهم معلومات صحيحة لكي يخطّوا طريقهم بشكلٍ احترافي”.
ويتابع أسعد: “الموسيقا العربية كلّها في خطر وليست السّورية فحسب، لكن هذا الخطر زائل إذا تحقّقت شروط التّذوّق الصحيح، نتحدّث هنا عن الجمهور بغضّ النّظر عن الاختصاصيين من موسيقيين وملحنين أو عازفين أو مغنين، فالجمهور الذّواق إذا كان لديه ثقافة موسيقية عالية وتقبّل للموسيقا الحقيقية ستتحوّل مسارات الموسيقا السّورية والعربية إلى المسارات الصحيحة، بعد ذلك تقع على عاتق الفنّانين والملحّنين والكتّاب والمغنين مسؤولية مواكبة تيّار هذا الجمهور الذّواق والوصول إلى ما يريده”، مبيّناً: “في سورية الآن محاولات لتشذيب الموسيقا وتهذيبها وإيصالها إلى خطّها الصحيح، وهي محاولات سيكون لها جدوى ولو بنسبة مئوية بسيطة في حال كان هناك عواقب، لأنّ ما يشتغل عليه في المعاهد الأكاديمية والمدارس الموسيقية الحقيقية بفضل أساتذة مخضرمين يعشقون الموسيقا الأصيلة يؤدّي إلى إنقاذ الموسيقا السّورية والعربية من المستنقعات التي نتحدّث عنها، وإذا استمررنا بالتّوجّه إلى الكلمة المعبّرة وبنهج الموسيقا الحقيقية والمعبّرة التي تعتمد على قواميس الأصالة والمقامات الموسيقية الحقيقية، ستكون الموسيقا بخير، أمّا إذا سيطرت الفقاعات على الذّواقة سيكون هناك اتّجاه آخر للموسيقا بشكل عام”.
وكما بقية الفنون، للموسيقي السّوري مكانته وسمعته المهنية الطّيبة، يوضّح زغلول: “الفنّان والموسيقي السوري معروف بالتزامه بالعمل واجتهاده، وآخر ما يفكّر فيه هو الموضوع المادي، بدليل استمرارنا في العمل، لكن في الوقت ذاته جميل أن يقدّر هذا الجهد ويأخذ حقّه، لذا الدّعم يكون بتضافر جهود الدّولة والقطاع الخاصّ الذي يدعم نجوماً من الخارج، فما المانع من دعم ثلاثة عروض في السّنة بمبالغ جيّدة تؤمّن عيشا كريماً للموسيقيين الذين في الأساس عددهم قليل، مضيفاً: “الموسيقيون بحاجة إلى زيادة أجورهم، ولا شكّ خلال هذه الفترة زادت إدارة الأوبرا تلك الأجور، لكنّ الزّيادة تبقى غير كافية مع هذا التّسارع في ارتفاع الأسعار، وكنقابة فنّانين نزيد أجور الموسيقيين أكثر من مرّة خلال بضعة شهور، وهناك خطّة حالية لزيادة أجور الموسيقيين بالعمل اليومي، كذلك الأمر بالنّسبة لوزارة الثّقافة والجهات المعنية التي تحاول ضمن الإمكانيات، لكنّ نؤكّد أهمية تضافر جهود القطّاعين الخاصّ والعام ووجود مراسيم واستثناءات، وهناك أمرٌ آخر مهمّ وهو ضرورة إعطاء الفرص للفنّان السّوري والفرق السّورية الخاصّة التي حققت حضوراً وتقدّم أعمالاً مميزةً وضمن المعايير، للظهور على المسارح الوطنية مرّتين في العام على الأقلّ وألّا تكون الفرص والعروض محصورة بأحد”.